لعل أخطر ما تنطوي عليه الحرب الأميركية - البريطانية على العراق من دلالات أنها تعلن عن انهيار فاضح لمجموعة كاملة من الضوابط الأساسية في المجتمع الدولي، وأن منطق القوة وحده، بأكثر أشكال هذه القوة تقانة همجية، هو الذي يسود لحظة تراخي عناصر القوة الموازية والرادعة. وهذا الأمر ينطبق على العلاقات الدولية والإقليمية وحتى داخل الكيانات السياسية التي تشكل هذا المجتمع الدولي. وجاء قيام الأممالمتحدة منذ أكثر من نصف قرن لينظم مشاركتها في ضبط النزاعات، ويعلن حقها في الوجود المستقل مهما كانت حدود قدراتها العسكرية. بل ان السلاح العراقي الذي تحول موضوعاً للمساءلة، وعنواناً للعقوبات، هو احدى نتائج السياسات التي اتبعتها الدول الكبرى في تغذية الحروب الإقليمية، واللعب بمصائر شعوبها، ومناهضة خياراتها الوطنية. فتحولت دولها تدريجياً الى عسكرة متضخمة، بوليسية في الداخل وعدوانية توسعية في الخارج. ان هذه الاتجاهات التي كانت تُبرّرها المعسكرات الدولية الكبرى سابقاً، وتعطيها بعض المشروعية، تلاشت مع انهيار المعسكر الشرقي، ولم تعد تحمل أية مبرّرات خلا استغلال فراغ القوة لفرض إرادة دولية واحدة لا تستند الى أية معايير قانونية أو أخلاقية أو انسانية. بل هي تجدِّف على ميثاق حقوق الإنسان في ذكراه الخمسين، وهو المرجعية الوحيدة التي تحظى بالإجماع على الصعيد الدولي. ويصادف هذا المناخ الجديد واقعاً عربياً مثقلاً بالأزمات التاريخية المتراكمة، مثخناً بالعداوات التي تباعد بين أطرافه، مغرقاً في القطيعة بين آمال شعوبه وخيارات حكامه، محاصراً بين تحديات الخارج والإرادة المعطلة في الداخل، منقسماً في داخل إنسانه بين قيمه الفردية الإنسانية وقيمه الجماعية كمتحد وشعوب ودول، عاجزاً عن المفاضلة والاختيار بين أمانيه القومية وحريته البشرية وكرامته الآدمية المصادرة بإسم تلك الأماني والكرامة القومية. لكننا وسط عالم لا تقرر مصائره الفجيعة الإنسانية والعواطف بل القوة هي التي تكوي جراحاته وتعيد تقنين مساراته... وهياج الشوارع وغضبها تحتويهما تقنيات السلطة المتشعّبة المحكومة بسقف المصالح والاحتياجات المتبادلة بين أطراف المجتمع الدولي. ان الصرخة المدوية والمطلوبة الآن لوقف عذابات الشعب العراقي لها معنى وقيمة كبرى إذا ما نجحت بفتح ملف الحريات الديموقراطية في العالم العربي، وتحقيق خطوة الى أمام في إقامة الفصل الواضح بين الحكم وبين الشعب، بين الأنظمة وبين الناس، ليس فقط تجاه القوة الدولية وحدها، بل تجاه الذين يصادرون كل شيء، ويجعلون من هلاكهم وهلاك الأمة شيئاً واحداً. ولأن العالم العربي ليس مبتلى فقط بمأساة العراق، بل هو موعود بالكثير من المآسي في شتى أقطاره، ثمة حاجة الى وعي استباقي يلاقي حراك الناس في الشوارع بحثاً عن الكرامة الوطنية، ويبلور مشروعاً عربياً لحقوق الإنسان العربي، ولحقوق العرب على العرب، وهم يتساوون في كل مكان تقريباً بالإهانة وبالتجاوز على حقوقهم. ولسنا نرى بديلاً من مؤتمر عربي يمثل كل القوى الديموقراطية يؤسس لفكرة التضامن مجدداً بين العرب قبل أن نرى "غداً على الرمل لا يبقى سوى الدمن". * كاتب لبناني.