في سابقة لافتة، ابرمت بريطانيا وفرنسا وثيقة للتعاون العسكري في عمليات مشتركة خارج اراضيهما واراضي الدول الاعضاء في الاطلسي، وبذلك ضرب الشريكان الاوروبيان مثلاً في ادارة العلاقات الثنائية، وفق المنهجية التي تتقيد بها بقية شركاء الاتحاد الاوروبي في الاطر الجماعية: الاقبال على ما يوسع مساحة اللقاء بمعزل عن جوانب الخلاف. فبين هذين الشريكين إرث ممتد من التربص والمنافسة واحتكاك المصالح، بما يوجب وصف علاقتهما بالصداقة اللدودة، هناك اولا، الترافع التقليدي بينهما كندين على الادوار والزعامة، حدث ذلك لعهود طويلة على صعيد عالمي، وبقيت ظلاله تلاحقهما على الصعيد الاوروبي، بعد غروب صفة القوتين العظميين عن مكانتهما في نهاية الحرب العالمية الثانية. وهناك ثانياً، المرارة البريطانية من الاتجاه الفرنسي لاستبعاد لندن من مسيرة العمل الجماعي الاوروبي طوال الخمسينات وحتى منتصف الستينات، ويقابلها الامتعاض الفرنسي المطول ايضا من استثناء بريطانيا لنفسها وموقعها من هذه المسيرة عند بدايتها. وهناك ثالثا، التنابذ الذي افسد مزاج العلاقات بينهما بفعل ما قيل عن وجود محور بون - باريس، الذي عمل كقاطرة للنزوع الوحدوي الاوروبي، وتحجيم فكرة الاستثنائية التي روجت لها بريطانيا حول علاقتها مع الولاياتالمتحدة خلف المحيط، وهي الفكرة المعروفة بالاتجاه الانغلوسكسوني، وكانت بريطانيا من الذين اثاروا مخاوف القوى الاوروبية الاصغر ازاء ذلك المحور. وهناك رابعاً، حزمة التباينات بين توجهات لندنوباريس داخل مؤسسات الاتحاد الاوروبي حول السياسات الزراعية والموازنة الاتحادية والعملة الموحدة اليورو والسياسة الخارجية والموقف من السياسات الاميركية عن كثير من القضايا الدولية. هذه الابعاد الخلافية جميعها، لم تحجب عوامل اللقاء والعناق بين يدي قضية تعد شديدة الحساسية كالتعاون العسكري، ولعله من دواعي العجب، ان الزعيمين توني بلير وجاك شيراك، اظهرا قدراً كبيراً من الافتراق حول طبيعة الكيان الدفاعي الاتحادي الاوروبي المأمول، حدث ذلك في الوقت الذي كانا يوقعان فيه وثيقة التعاون المومأ إليها، ما يؤكد عملهما بنظرية الخلاف الذي لا يفسد للود قضية، والعمل انطلاقا من نصف الكوب المملوء وان ما لا يدرك كله لا يترك جله. وفي إطار هذه المقاربة الايجابية، ابرز الشريكان اللدودان أن تقاربهما الثنائي في قضية الدفاع، لا يعني غض النظر عن الطموح الاوروبي الجماعي، فلقد "بذل جهد لاقامة كيان دفاعي اوروبي". يعنينا من هذه التجربة، امكان استلهام روحها ونظريتها في معالجة معادلات الخلاف/ الاتفاق، الثنائي/ الجماعي، القومي/ الاوروبي العام. إنها تجربة اخرى جديرة بالاهتمام العربي، من حيث انها تنطوي على ما يمكن محاكاته عربياً. هي على جملة القول، تجربة تنتمي الى حلقة متصلة من الدروس التي تكاثرت في اطار العمل المشترك لدى جيران العرب شمال المتوسط. على انه يعنينا في الأجل القريب بعض التداعيات العملية المحتملة لهذا الميثاق العسكري، فالمعروف ان السياسة البريطانية بعامة، من دون استثناء الجوانب العسكرية الدفاعية الاجنبية هي اميركية الهوى، وهي حقيقة نراها عياناً في غمرة الازمات الدولية التي تتغلغل فيها واشنطن، وامثلتها العربية كثيرة، من العراق إلى ليبيا والسودان وامن الخليج. من هنا يثور الاستفهام عما إذا كانت هذه الازمة ستنعكس على الشريك الفرنسي؟ والى اي حد؟، وعكس ذلك التساؤل مشروع ايضا، فلنا ان نتصور جدلاً محاولة فرنسية لكبح الغلو البريطاني في الاستتباع للفكرة الانكلوسكسونية والحليف الاميركي، ولنا ان نتصور تبلور نقطة للتوازن، يتوافق عندها الشريكان العتيدان البريطاني والفرنسي على التنسيق مع كبير العائلة الاطلسية دون التدثر بعباءته في كل الاحوال، مثلما دأبت بريطانيا منذ افول نجمها على ضفاف السويس في نهاية الخمسينات. وتقديرنا، ان اختبار هذه الانعكاسات يحتاج لبعض الوقت، وقد تظهر النذر الدالة عليه في سياق بعض الازمات الساخنة، التي تطلب قرارات تطبيقية لما ورد في وثيقة التعاون، ولعل اقرب النماذج الممثلة الى الذهن، نموذج الازمات العراقية - الاميركية الدورية. غير انه في كل الاحوال، يبدو من شبه المؤكد دخول النزوع الاوروبي نحو سياسة خارجية وأمنية موحدة في طور جديد، بفعل الشراكة بين اثنتين من كبريات دول الاتحاد الاوروبي، في مجال بدا عصياً على التطويع طوال العقود الاربعة الماضية. * كاتب فلسطيني.