تعلن ست دول خليجية يعتمد معظمها على النفط كمورد اول للدخل خلال الايام القليلة المقبلة موازاناتها العامة للسنة الجديدة والتي تحمل معها الكثير من علامات الاستفهام التي كانت الاسواق النفطية تزفها خلال 1998. حكاية دول الخليج مع موازانتها تدور في الغالب حول برميل النفط، على رغم المحاولات الجادة والناجحة نسبيا لاستقطاب سلع جديدة وخدمات تنمو نسبتها بتؤدة كل عام في اجمالي الناتج المحلي بحيث تستشرف كل دولة النجاح الذي لم يكتمل الى ان يصبح سعر النفط الهاجس الاخير لوزراء مال هذه الدول. وفي بداية العام الماضي كان سعر برميل النفط يقارب 25 دولارا لخام برنت، وتراجع تدريجيا منذ مطلع السنة الجارية حتى بلغ في الاسبوع الاول لشهر كانون الاول ديسمبر الجاري حدود 9.75 دولار، وتباع خامات بعض دول اوبك ومنها دول الخليج باقل من خام برنت بما بين 1.5 و 2 دولار. وهذا السيناريو الذي شهدناه غير مرة سيدفع بعض دول الخليج وفي مقدمها السعودية والكويت الى الغاء خطط انفاق حيوية بعضها الغي بالفعل او اسناد تنفيذها الى القطاع الخاص الذي يبدي بدوره اهتماماً بأفكار ومشاريع التخصيص، وتملّك بعض مشاريع الانتاج والخدمات او الحصول على بعض حصص الحكومات في اكثر من قطاع اذا سارت خطط التخصيص وافكاره بالشكل الاقتصادي السليم. ولا يشعر الخليجيون على مستوى الحكومات والمسؤولين بالهلع، وكذلك الخبراء الاقتصاديون لان عجوزات الموازنه المتوقعه من جراء انخفاض اسعار النفط ليست جديدة، لكنها حكاية متجددة تتصاعد حينا، وتخفو أحياناً. والخليجيون كما يحب البعض ان يسميهم تخصيصا يعلمون ان لديهم قطاع خاص قوي وثري بالتعبير الذي تحبه الصحافة الاجنبية ويملك وفقا لتقديرات غير رسميه اكثر من 700 بليون دولار اكثر من نصفها لافراد وهيئات سعودية. وفي المقابل يملك رجال الاعمال وبعض الهيئات الحكومية وشبه الحكومية في الخليج ما بين 200 و300 بليون دولار مستثمره في الاسواق المالية الدولية تشمل استثمارات في أسواق أسهم وسندات الدول الناشئة. اذن ما الجديد في الامر؟ الجديد ان قسوة الحكاية هذه المرة اكثر ايلاماً اذ تأتي في وقت حساس تقبل فيه بعض هذه الدول على منظمة التجارة الدولية من جهة، وتقابل فيه مجتمعات بدأت تتحدث عن البطالة، وسوء تنظيم العمالة الاجنبية، وتحاور فيه هيئات ومنظمات ورجال اعمال من جميع انحاء العالم يطلبون التغيير في السياسات الاقتصادية، ويطالبون بمزيد من الانفتاح في التبادل التجاري. اما الجديد والمهم فهو النقلة النوعية في اسلوب التعاطي مع المشاكل الاقتصاديه الذي بدأت دول الخليج في انتهاجه خصوصا في السعودية التي قادت خلال القمة الخليجية الاخيرة الدعوة الي اتخاذ قرارات واضحة وحازمة اهمها الالتزام بتخفيضات انتاج النفط المعلنة، وحث الدول الاخري على انتهاج السبيل نفسه، والاهم قذف كرة النفط الي ملعب المنتجين الآخرين بالاعلان عن الاستعداد لأي ترتيبات اخرى في حال التزام الجميع بالتخفيضات التي اعلنوها. ويسعى الخليجيون الى اقامة السوق الموحدة وتوحيد التعرفة الجمركية لتكريس خط اتضحت معالمه في القمة مفاده ان زمن الاعتماد على الحكومات قد ولى، وبدأ زمن الافراد والقطاع الخاص في هذه الدول يأخذ نصيبه من المسؤولية بعدما تأكد الجميع من انحسار الطفرة، وربما الي غير رجعة. اذن آن كما يبدو للقطاع الخاص، وللفرد ان يعتمد على نفسه وينتج مقدرات اقتصاده لأنه بلغ سن الفطام، ولأن حكومات بعض دول الخليج انفقت عليه كثيرا، وربما كثيرا جدا وهاهي تنتظر قطف ثمار زرعها. لا طفرة في الافق كان البعض يعتقد بعودة الطفرة الى الخليج مرة اخرى، وكان هذا الاعتقاد سببا غير مباشر لتأجيل اتخاذ الكثير من القرارات المتعلقة باعادة تنظيم الاقتصاد ليتواءم مع الظروف الحالية والمستقبلية التي تفرضها اسعار النفط. وبدأت الحكومات الخليجية سلسلة اجراءات منذ حرب الخليج الثانية لتقليص الانفاق الحكومي، ورفع اسعار بعض الخدمات، وكان بعضها مثل السعودية لا يعاني كثيرا لانه انهى بناء البنية التحتية للمشاريع التنموية، وفعل خيرا ان بنى بعضها كما في الجبيل وينبع بحيث تكفي للعديد من التوسع والانتشار مستقبلا. وتتركز متاعب الاقتصاد في الخليج من عجوزات الموازنات التي تأتي نتيجة الدعم الذي تلقاه الخدمات من جهة، والنزيف الاقتصادي المتولد من تحويلات العماله الاجنبية ذات العدد الكبير من جهة اخرى، والقوى العاملة المعطلة المتمثله في المرأة التي ينفق الكثير على تعليمها وتأهيلها ولا يتم الاستفادة منها في الناتج الاجمالي العام. والمؤكد وفقا لخبراء هذه الدول ان الطفرة لن تعود حتى لو تحسنت اسعار النفط التي سيكون عليها تسديد عجوزات متراكمة كبيرة، ومجابهة النمو السكاني الكبير والطلب المتنامي على الخدمات وفرص العمل. والذي اصبح في حكم المؤكد ايضا ان دول الخليج لن تحقق هدفها بازالة العجز في موازانتها مع حلول القرن المقبل كما كانت تطمح. ولا تزال معادلة العجز مربوطة باسعار النفط الى اجل غير مسمى التي ينبغي ان تعود الى معدلات العامين 96 و1997. المستويات المقبولة يشدد الاقتصاديون الخليجيون والدوليون على ان العجز في موازنات الخليج سوف يستمر، لكنهم يؤكدون ان مساعي هذه الدول لخفض الانفاق، وزيادة الايرادات غير النفطية ستجعله يستمر عند مستويات مقبوله لا تتجاوز الثلاثة في المئة من اجمالي الناتج المحلي ولتحقيق مبتغى هذه الدول يجزم الجميع ان على القطاع الخاص القيام بدور اكبر في عملية التنمية الاقتصادية "والمساهمة مباشرة في تنمية موارد الخزانة الحكومية لتخفيف العبء عن الدوله وتمكينها من معالجة الخلل المالي". وعلى هذه الدول مواصلة خططها الرامية الى تخصيص معظم المنشآت الحكومية لاستغلال امكانات القطاع الخاص وتخفيض العبء المالي عن الحكومات خصوصا الانفاق على تشغيل هذه المنشآت وصيانتها وتقديم الدعم لها وتمويل الخدمات المرافقة. وفي الاجمال يمكن القول ان نجاح اي خطط خليجية في المستقبل لجهة الموازنات اصبح مربوطا بالقطاع الخاص الذي اضحى بفضل حكوماته قوي جدا، فايرادات القطاع الخاص في السعودية مثلا تصل الى 160 بليون دولار، كان للحكومة اليد الاكبر في تنميتها بعدما انفقت في ستة خطط تنموية اكثر من 533 بليون دولار كانت نسبة كبيرة منها تذهب للقطاع الخاص. وما يهم دول الخليج وخصوصا السعودية في مسألة الموازنات هو ان تنجح خطوات ترشيد الانفاق في منع ارتفاع العجز بنسبة كبيرة "وخروجه عن السيطرة" او "عدم وصوله الى مستويات مقلقة" الموازنة السعودية ولا يزال المناخ الاقتصادي السعودي مناسبا للبدء في تنويع مصادر الدخل بعيدا عن قطاع النفط، ويعتمد تبني هذه التغييرات الى حد كبير على انعكاسات انخفاض اسعار النفط، فكلما انخفضت الاسعار زاد الاحتمال بتبني مثل هذه الخطوات خلال العام المقبل وما بعده. ووفقا لتوقعات الخبراء والمصرفيين في السعودية سيبلغ معدل النمو في اجمالي الناتج المحلي 1.7 في المئة لعام 1998، بينما يتوقع ان يكون معدل نمو القطاع الخاص للعام نفسه نحو 3 في المئة، فيما يتوقع ان يشهد عام 1999 نموا حقيقيا وايجابيا في اجمالي الناتج المحلي وناتج القطاع الخاص لكنها بطبيعة الحال اقل من السنة الجارية. ويتوقع ان يبلغ معدل النمو في اجمالي الناتج 1.5 في المئة، وللقطاع الخاص نحو 2.5 في المئة. وتضع بعض المصارف السعودية تخمينات تقارب في العادة ما يدور في كواليس وزارة المال السعودية ومؤسسة النقد العربي السعودي، وبالنسبة للموازنة الجديدة لعام 1999 ولا تخفي المصارف السعودية قلقها النسبي من غياب اية موارد جديدة للحكومة، وبالتالي تضع هذه المصارف الايرادات المتوقعة للسعودية ما بين 40 و45 بليون دولار مقابل مصاريف اجمالية متوقعه ما بين 50 و 55 بليون دولار، وهي بذلك تتوقع عجزا يراوح بين 5 - 10 بلايين دولار. ويبني المصرفيون عادة توقعاتهم من خلال أداء الفترة الماضية حيث حاولت السعودية هذا العام خفض مصاريفها قدر الامكان وقد تكون نجحت في خفض مصاريفها من ما يزيد على 52 بليون دولار الى ما يقل عن 50 بليون دولار، وهذا ما يؤكد التوقعات ان غياب المؤشرات الايجابية الفعلية في اسواق النفط قد يجعل وزارة المال السعودية حذره لجهة المصاريف التي ربما ابقتها على ما هي عليه السنة الجارية. اما الارقام والمؤشرات المالية الاخرى للسعودية فلا يمكن الجزم بها قبل خروج الاحصاءات الرسمية الدقيقة، لكن الخبراء يتوقعون ان يبلغ التضخم ما نسبته 1.5 في المئة للعام الجاري، ويرتفع الى 1.8 لسنة 1999، وعند الحديث عن التضخم يدرك الاقتصاديون الدوليون ان الحكومة السعودية نجحت دائما في ابقاء التضخم في مستويات دنيا خلال الأعوام الماضية، ومن المتوقع ان تحافظ على هذا النهج لسنوات عديدة مقبلة. وستبنى وزارة المال السعودية وفقا للتوقعات ذاتها موازنة منخفضة للسنة المقبلة، ومن غير المحتمل انخفاض المصاريف الجارية الى حد كبير، اذا لا يمكن خفض فاتورة رواتب واجور القطاع الحكومي، وستستمر الوزارة في دفع فوائد الدين الداخلي، مع محاولة التوفير في الواردات والخدمات والتشغيل والصيانة. النفط تظل المعادلة كما هي بالنسبة لدول الخليج ما يؤكد باستمرار ان انخفاض اسعار النفط وطول مدة هذا الانخفاض سيدفع الى تكوين الموازنات وحتى الانطباعات المتحفظه لدى المسؤولين في الحكومة، ولدى المحللين والمختصين بشؤون النفط. ويبدو ان السعودية وبعض دول الخليج يريدون الاستمرار بقوة في طريق تقليص الاعتماد على النفط الذي تضاربت التوقعات حول انتعاش اسعاره او انخفاضها خلال العام 1999. وتتميز السعودية دائما بأنها تضع التوقعات الاكثر تحفظا لاسعار النفط عند وضع موازاناتها، وكان المزمع ان تضع توقعاتها لاسعار العام المقبل بين 13 - 14 دولار للبرميل الواحد، لكن انباء السوق الدولية وتوقعات هيئات الطاقة قد تجعل السعودية تبني حساباتها على اسعار تراوح بين 10 و11 دولاراً للبرميل. وللابتعاد التدريجي عن الاعتماد على النفط تحتاج بعض دول الخليج الى شجاعة وحزم لاصدار قرارات مالية صارمه اهمها خفض مصاريف المشاريع الرأسمالية، وتخصيص فعلي للكثير من منشآت القطاع العام، ورفع الدعم عن الخدمات، وضبط المصاريف الحكومية.اضافة الى ذلك ستسعى الدول المعتمدة على النفط الى زيادة وعي مواطنيها بازماتها الاقتصادية لزيادة الانتاجية من جهة، وخفض مصاريف الرفاه المعتاده، واجراء تعديلات واسعة على الانظمة والقوانين الداخلية حتى على المستوى الاجتماعي