أدارت وجهها ناحية زجاج النافذة، ونظرت إلى الأفق. "صباح عادي في شهر آذار مارس. آخر البرد الشديد في مدينة الضباب وبداية تفتّح كل شيء". كانت كررت النظرة مراراً منذ صباح هذا اليوم. وها هي تثبت لنفسها مرة أخرى، ليس لهذا الجو السديمي علاقة بمزاج ثقيل، يربض فوق صدرها. مسحت بعينيها مقاعد الباص المستطيل. صمت. وجوه ما زالت عند حافة نعاس لم تغادره، والساعة قد تجاوزت الثامنة والنصف بقليل. ستعود بالباص نفسه عند الثالثة، لتصطحب الطفلين من المدرسة. مشوار يومي، يتكرر مرتين، جيئة وذهاباً. ثلاث سنوات وهي تؤدي هذا الروتين الصباحي، تعقبه العودة للبيت، أو الذهاب للتسوّق، وهذا ما تفعله الآن. "طقس غريب. النشرة الجوية وعدت بتحسّن بعد الظهر". إنشرحت لتنبؤ العجوز التي صعدت قبل قليل، وجلست على المقعد المجاور. "هذه لندن" .. علّقت هي بابتسامة جرّتها من داخلها. فعقبت الجارة بعبارات متواصلة عن خطط اليوم التي تبدلت. وجّهت حديثها للجارة الغريبة، مقرّبة فمها الذي تناثر منه رذاذ بصاق. راحت الأخرى تستمع بملل، ماسحة عن وجهها رطوبة الحكي المزعجة. قال لها أحد المعارف في بداية وصولها "إذا أردت أن تتعلّمي الإنكليزية، تحدّثي إلى عجائز المدينة". إعتقدت أنه يقولها عن خبرة سابقة. لم يكن كذلك. فهؤلاء ناس، معظمهم يبث في إتجاه واحد. يرغب في قول شيء يُسمع. "مساكين. الآخرون في حياتهم خرجوا إلى عوالمهم الخاصة" .. عادة ما يعلّق زوجها المتعاطف مع شيوخ وحيدين، ثم يغيب هو طوال اليوم في إنشغالات العمل، ليعود إليها بصمته وصممه. لا يتحدث إلا القليل. لا يريد سماع إلا اليسير من الحكي. "ناقشوه مع أمكم" .. عادة ما يقولها للأولاد إذا اختلفوا أو طالبوا بشيء. صمتت جارتها، فأعفتها من همّ لا مقدرة لها عليه: تجاهل من يتكلم. هكذا علّموها في بلدها، قبل أن تأتي إلى هنا. لكنها بعد غربة ثلاث سنوات، وجدت نفسها تقوم بدور أحادي: الإنصات للأولاد طوال وجودهم معها، لهموم يلقيها الزوج بسرعة بمجرد دخوله، مثلما يلقي حقيبة يده المحملة بأوراق العمل. تنصت لكل من يوقفها في الشارع، مروّجي بضاعة من كل نوع: سلع وخدمات وتبشير ديني. "هل يمكن إعتباره بضاعة، التبشير الديني؟" .. حسمت الأمر بالإيجاب. "هكذا يؤدونه"!. في البداية كانت تستمع إليهم من منطلق ذات التهذيب، خصوصاً وأن أغلبيتهم من السود. تهذبت وتعاطفت. ثم ضجرت من دعوات كنسية متعددة. "لم تكن تنصت من منطلق التهذيب فقط". حاسبت نفسها مصححة سلوكها، كي لا تخلط الحقائق. "الملل، والرغبة في التواصل مع الآخرين" .. هذا كان حافزها للتوقف أمام الدعاة. تعبت من مونولوج منفرد تؤديه غالبية اليوم. تعبت من حوارات صامتة تبتكرها، وتظن أنها ستقولها لزوجها عند وصوله. ثم تؤجلها، لأنه متعب ونعسان. "طال وقوف الباص". علقت العجوز متململة. فانتبهت هي أن المرور شبه مغلق لسبب ما. تسلقت نظراتها بحركة عفوية إلى أعلى النافذة. غيوم باهتة متداخلة مع ضباب لم يتسرّب بعد. "مشهد محايد، مثل هذا الباص بركابه". ودّت أن تدير وجهها إلى جارتها العجوز وتقول لها: "هل تصدقين أنني كنت مهندسة مدنية في بلدي .. ولا أفعل شيئاً في هذا البلد سوى الضجر؟" .. وإذا ما سألتها العجوز: "غريب. لماذا؟" .. ستحكي لها عن صعوبة فرص العمل، وعن بيت وطفلين يجب أن تتفرغ لهما. "كيف كنت تتصرفين قبل أن تجيئي إلى هنا؟" .. ربما سألتها العجوز. "في بلدنا الأمر مختلف" ستقول لها. "في بلادنا، هناك أهل وجيران ومعارف يثق بهم المرء" .. ستؤكد لها المعلومة بفخر .. "أطفالنا يذهبون للمدرسة بمفردهم. لا نخاف عليهم" .. "ومن أي البلاد أنت يا عزيزتي؟" .. مؤكد أن العجوز ستستفسر. من الأفضل لها ألا تبدأ الحوار أساساً!. ستضطر إلى شرح مطول تعاني منه منذ جاءت إلى هنا. لا يعرف أهل هذه المدينة عن العالم غير ما إستعمرته إمبراطوريتهم، بريطانيا العظمى!. تتعب من شرح أين تقع بلادها. ثم تجدهم يصيحون: "آه قرب إسرائيل!". هل جاءت إلى هذه الغربة كي تعرّف بلادها بهذا الموقع؟.. إنفكّت عقدة السير. تحرك الباص حتى وصل إلى الموقف المخصص له. ستنزل في المحطة التالية، حيث سوق المنطقة. "يوم لا يشجع على المشي خارج البيت" .. ومع ذلك ينزل ويصعد كثيرون إلى الباص. الطقس لا يوقف حركة الناس هنا، بل يدعوهم للخروج. "كي يشتكوا منه للآخرين". قالت لنفسها وهي ترقب إمرأة شابة تعبر ممر الباص، كانت تحمل في أحد ذراعيها طفل صغير بعيون شديدة الزرقة، وفي الذراع الأخرى، تحاول أن ترفع عربته لتضعها في المكان المخصص للأغراض داخل الباص. بدا الإرتباك على الراكبة الجديدة، فقد سقطت بعض محتويات حقيبة يدها السوداء المخملية. لكنها إستمرت تبتسم إبتسامة شباب لا يعرف اليأس بسهولة. خلال دقيقة، كانت رائحة عطر طيبة تفوح في المكان الضيق المستطيل. علت همهمات تتساءل عن ماهيتها. "هل هو ياسمين؟". سألت العجوز. "هذا ليس بياسمين .. هذه رائحة تعتمد على التوابل" .. ردّ بثقة عجوز آخر سمع السؤال من مقعده أمامها. تمتمت صاحبة السؤال بعبارات تنم عن دهشتها من خبرته في هذا المجال. من المقاعد الأمامية، إنفلت طفل صغير من حضن أمه، وركض باتجاه الزجاجة الصغيرة. "أتركها" .. أنّبته الأم .. "أعطها للسيدة" .. أكملت وهي تضحك مع ركاب آخرين على عودته لها، حاملاً زجاجة العطر. كانت المرأة الغريبة في تلك اللحظة، تتذوق الشذى بنفسٍ عميق. تسلل العبق سريعاً إلى أعصاب جسدها، فشعرت ببهجة كانت بعيدة عنها اليوم .. "هذا يفسر وجود علاج يعتمد على العطور" .. خطر لها هذا التعليق، وودّت لو تسأل صاحبة العطر عن إسمه. "الشابة المسكينة! .. خسرت عطرها" .. ردّد صوت عريض لراكبة بدت من أصول كاريبية. إلا أن الشابة المعنية كانت لحظتها تحضن صغيرها، وتتبادل مع ركاب آخرين، تعليقات طريفة حول العطر المسفوح. فاح الأريج سريعاً داخل الباص الطويل، فاختلطت الأصوات البشرية في حوارات لم تكن لتخلق بسهولة، لافتة الإنتباه بعيداً من نوافذ عريضة، تحبس من الأفق بياضاً سديمي، وركاباً ناعسي الروح