"قل سبحان ربي، هل كنت إلا بشرا رسولا؟" الاسراء: 39، "قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد، فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا" الكهف: 110. عندما اصطفى الله، سبحانه وتعالى، محمد بن عبدالله نبيا ورسولا، وعندما صدع بأمر ربه، فدعا الناس الى التوحيد، والى الايمان به نبيا ورسولا، لم تكن هناك شبهة على "بشرية" هذا النبي الرسول. فهو نشأ يتيماً في الفرع الهاشمي من قبيلة قريش في مكة، وشب الشباب الطيب المألوف من البشر المستقيمين، ثم هو قد رعى الغنم حيناً من الدهر، ومارس التجارة حيناً آخر، كما كان يصنع اقرانه من البشر العاديين، فليس في حياته هذه ما كان يثير أية شبهة حول "بشريته" أو يلقي عليها الشكوك أو الظلال. ومع كل هذا فلقد وجدنا القرآن الكريم تجتهد آياته البينات لتؤكد على "بشرية" محمد، ولتنفي أن يكون إلا "بشراً رسولا"، وبشراً يوحى إليه من السماء بالنبأ العظيم. فلم كان هذا التأكيد والالحاح على قضية لم تكن محل خلاف ولا شبهة ولا جدال؟ لإدراك السر الذي يجيب على هذا التساؤل، لا بد من النظر الى رسالة محمد بن عبدالله، صلى الله عليه وسلم، في سياق ما تقدمها من رسالات نهض بها الرسل الذين سبقوه على درب اتصال المساء بالبشر لهدايتهم الى الصراط المستقيم. وايضاً في ضوء كون الرسالة المحمدية هي الرسالة الخاتمة لطور النبوة والرسالة، بما يعنيه ذلك من بلوغ الانسانية مرحلة "الرشد" التي تأهلت بها لأن توكل الى "عقلها الراشد" تهتدي به - كلما انحرفت او ضلت - الى جادة الرسالة الخاتمة، دونما حاجة الى رسول جديد! ولقد كان هذا الطور الجديد الذي ارتقت اليه الانسانية طور "الرشد" هو الذي حدد الطابع الذي تميزت به "معجزة محمد" التي تحدى بها قومه، فجاءت لذلك: * معجزة عقلية على رغم انها "نقل" و"وحي"، فهي لا تدهش العقل ولا تذهله، وإنما تنضجه وترشده، وتجعله مناط التكليف، وتتخذه حكما وحاكما في فقه مراميها واكتناه اسرار إعجازها واستخراج البراهين والاحكام مما ضمت من السور والآيات. * وهي لهذا السبب خالدة خلود الرسالة الخاتمة، لأن تأثيرها دائم الفعل والبرهنة. فهي ليست سفينة نوح، أو ناقة صالح، أو عصا موسى، أو ابراء عيسى للأكمه والأبرص... إلى آخر المعجزات التي "ادهشت العقل"، والتي وقف "إدهاشها" هذا عند حدود "الشهود"؟. * ولأنها كانت التعبير عن بلوغ الانسانية طور "رشدها"، وعن اتساق "طبيعة اعجازها" مع هذا الطور الجديد، وجدناها تولي اهتمامها بكثير من القضايا التي تدعم من عوامل "رشد الانسانية" والتي تزيل بقايا الشبهات والخرافات والمعتقدات الباقية من المراحل السابقة، عندما كانت الانسانية "خرافا ضالة" تحتاج الى "الوصاية الدائمة" من قبل الرسل والانبياء، ولا تؤمن إلا إذا "اندهش عقلها". وهي مراحل كانت "عقول" الاكثرية فيها تأبى أن تصدق اتصال السماء بالأرض عن طريق "بشر" فكانت تنزع الى "رسل - ملائكة" نزوعها الى المعجزات "المدهشة للعقول"! فالذين كذبوا نوحا، عليه السلام، انكروا واستنكروا "جدارة البشر أن يكون رسولا"؟ "ولقد ارسلنا نوحا الى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره افلا تتقون. فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما هذا الا بشر مثلكم يريد ان يتفضل عليكم ولو شاء الله لأنزل ملائكة ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين" المؤمنون: 23-24. وكذلك صنع قوم عاد مع رسولهم هود، عليه السلام "وقال الملأ من قومه الذين كفروا وكذبوا بلقاء الآخرة واترفناهم في الحياة الدنيا ما هذا الا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون. ولئن اطعتم بشرا مثلكم إنكم إذا لخاسرون" المؤمنون: 33-34. أما ثمود الذين ارسل الله اليهم صالحا عليه السلام، فإنهم مع انكارهم "جدارة البشر بالرسالة" قد طلبوا "الآية - المعجزة" التي تدهش العقول: "كذبت ثمود المرسلين. إذ قال لهم أخوهم صالح الا تتقون. إني لكم رسول أمين" الشعراء: 141-143. لكنهم كذبوه، و"قالوا: انما انت من المسحرين. ما انت الا بشر مثلنا فأت بآية ان كنت من الصادقين" الشعراء: 153-154. فلما جاءتهم "الآية - المعجزة المدهشة للعقل" وهي الناقة استمروا على تكذيبهم وكفرهم، استنكارا منهم ان يكون بشر رسولا: "فقالوا ابشرا منا واحداً نتبعه إنا إذا لفي ضلال وسعر" القمر: 24. وعلى هذا الدرب - درب استنكار "جدارة البشر بالرسالة" - سار "أصحاب الأيكة - اهل مدين" عندما بعث الله اليهم شعيبا، عليه السلام "إذ قال لهم شعيب الا تتقون. إني لكم رسول امين" الشعراء: 177-178. لكنهم كذبوه مستنكرين جدارته، كبشر، بالرسالة "قالوا: إنما انت من المسحرين، وما أنت إلا بشر مثلنا إن نظنك لمن الكاذبين" الشعراء: 185-186... ثم طلبوا منه - كما طلبت عاد من صالح - "الآية المعجزة" التي تدهش العقل وتذهله "فأسقط علينا كسفا من السماء إن كنت من الصادقين" الشعراء: 187. ولقد تحدث المسيح عيسى بن مريم، عليه السلام، عن حال بني اسرائيل، عندما أرسله الله اليهم، فقال عنهم: "انهم خراف ضالة". ولقد جاءهم عيسى بالمعجزات التي "تدهش العقول" من مثل إحياء الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص... فلم يؤمنوا به، بل إن الحواريين الذين آمنوا به سجلوا، هم أيضاً، وعلى رغم إيمانهم به، ملامح ذلك الطور الأول في سلم التطور لعقلانية البشر، عندما طلبوا من عيسى "الآية - المعجزة" التي "تدهش العقول": "إذ قال الحواريون يا عيسى بن مريم هل يستطيع ربك أن ينزّل علينا مائدة من السماء قال اتقوا الله ان كنتم مؤمنين. قالوا نريد ان نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين. قال عيسى بن مريم اللهم أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا وآية منك وارزقنا وأنت خير الرازقين. قال الله إني منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين" المائدة: 112-115. ولذلك، فعلى رغم ان دعوة عيسى، عليه السلام، كانت "أن اعبدوا الله ربي وربكم" المائدة: 117، إلا آن قوما قد ضلوا فيه، فاستعظموا أن تظهر هذه "الآيات المعجزات" التي "تدهش العقل" على يد "بشر" فاتخذوه وأمه إلهين من دون الله؟! تلك كانت مسيرة الانسانية مع رسالات السماء. فتعبيراً عن قصور هذه الانسانية في "الرشد العقلاني" كان استنكار الأكثرية "جدارة البشر" بالنبوة والرسالة والنزوع الى أن تكون "معجزة الرسول" مما "يدهش العقل" ولا يحتكم اليه؟ ولهذا رأينا القرآن الكريم - وهو المعجزة العقلية الخالدة للرسالة الخاتمة - يلح، معالجاً بقايا هذه الفكرية الجاهلية، على بشرية محمد بن عبدالله، صلى الله عليه وسلم، ليعلن ويؤكد: * جدارة البشر بالاصطفاء الالهي نبيا ورسولا. * واستحالة ان يكون النبي والرسول إلا بشرا يوحى اليه. * وانتهاء الطور الساذج من المسيرة التطورية للانسان، والذي كانت تناسبه "الآيات - المعجزات" التي "تدهش العقل". فلقد أخلى هذا الطور المكان لعصور بلغت فيها الانسانية "رشدها". واذا كان الاسلام هو الرسالة الخاتمة، وبها ارتفعت الوصاية عن الانسان، فلا بد وأن يلعب "العقل" دورا قائدا في "رشد" هذا الانسان وفي "ارشاده". ومن ثم فإن "طبيعة الاعجاز" في معجزة محمد لا بد وان تختلف عن طبيعتها في معجزات الرسل السابقين، انها لن "تدهش العقل" بل ستتخذه حكما وحاكما؟! نعم، لقد وقف هذا السبب خلف الحاح القرآن الكريم على "بشرية" محمد بن عبدالله على رغم أن هذه "البشرية" لم تكن موضع خلاف ولا موطن شبهات. فمن العرب من ردد مقولة الأمم السابقة "واسروا النجوى الذين ظلموا هل هذا الا بشر مثلكم" الأنبياء: 3... بل وطلبوا ما طلبته تلك الامم "فليأتنا بآية كما أرسل الأولون" الأنبياء: 5. وأمام هذا "المنطق الجاهلي" الذي وقف بأصحابه عند "جاهلية الانسانية"، توالت آيات القرآن تكشف زيف هذا "المنطق". فالتكذيب والعناد والجحود هي سبب الكفر، وليس الافتقار الى "الآية - المعجزة المدهشة للعقل" وذلك بدليل ان مجئ معجزات الرسل السابقين على هذا النحو لم يحوّل قومهم من الكفر الى الايمان "ما آمنت قبلهم من قرية اهلكناها أفهم يؤمنون" الأنبياء: 6. كما ان الرسل كانوا دائماً بشراً يأتيهم وحي السماء "وما ارسلنا قبلك الا رجالا نوحي اليهم فاسألوا اهل الذكر ان كنتم لا تعلمون. وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام وما كانوا خالدين" الأنبياء: 7-8. وبلوغ الانسانية "طور الرشد" قد أذن بختام "طور النبوة والرسالة" الأمر الذي افسح "للعقل الانساني" مكانا عاليا في "ترشيد" الانسان و"هدايته". ولذلك كله اختلفت "طبيعة الاعجاز" في معجزة محمد، عليه الصلاة والسلام: "قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا. ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل فأبى اكثر الناس إلا كفورا. وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الارض ينبوعا. أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الانهار خلالها تفجيرا. او تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا أو تأتي بالله والملائكة قبيلا. أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا." الاسراء: 88-93. وكان القرآن الكريم، بهذا المنطق، يقطع الطريق على كل المحاولات التي يمكن ان تظهر من ضعاف العقول، وضعاف الايمان "بالعقل" لتشكك في "بشرية" الرسول، عليه الصلاة والسلام "قل إنما انا بشر مثلكم يوحى الي أنما إلهكم إله واحد فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه احدا" الكهف: 110. فهذا التأكيد على "بشرية" الرسول، وثيق الصلة بالتأكيد على ضرورة ان تبقى عقيدة التوحيد "في التصور الاسلامي" محتفظة بنقائها الشديد. وفي هذا الضوء، وجب ويجب على العقل المسلم ان ينظر الى كل "القصص" و"اخبار الآحاد" التي نسبت وتنسب الى الرسول، صلى الله عليه وسلم "الخوارق المادية" "المدهشة للعقول" والتي هي من جنس معجزات الرسل الذين سبقت رسالاتهم رسالة الاسلام، عندما لم تكن البشرية قد بلغت سن الرشد الذي آذنت به رسالة الاسلام. وصدق رسول الله، صلى الله عليه وسلم اذ يقول، محذرا امته من استعارة سذاجة الأمم التي سبقت، والسير على نهجها في الانحراف عن "الرقي والبساطة" اللذين تميزت بهما عقائد الاسلام "لتتبعن سنة من كان قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه" رواه البخاري ومسلم. ان "بشرية الرسول" التي تؤكدها "معجزته - القرآن" ليست مجرد "تحصيل حاصل" وإنما هي "ثورة" على التصورات الجاهلية للأمم السابقة، عن "طبيعة الرسل" و"طبيعة المعجزات"... كانت كذلك عندما تحدث عنها القرآن الكريم، وهي لا تزال كذلك، "ثورة" على "التصورات" التي طرأت على افكار ومواريث بعض التيارات الاسلامية التي استنامت للقصص الخرافي، ولم تتخذ من "العقلانية الاسلامية" موقفا وديا. إن علينا ان نذكر ذلك، ونحن نقرأ هذه الصفحة من فكر الاسلام، وسيرة رسوله، عليه الصلاة والسلام، ان نعي ماذا يعنيه قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "أول ما خلق الله العقل، فقال له: أقبل، فأقبل. ثم قال له: أدبر، فأدبر. ثم قال عز وجل: وعزتي وجلالي، ما خلقت أكرم عليّ منك، بك آخذ، وبك اعطي، وبك اثيب، وبك أعاقب". وقوله، صلى الله عليه وسلم: "اعقلوا عن ربكم، وتواصوا بالعقل تعرفوا ما أمرتم به وما نهيتم عنه، واعلموا انه ينجدكم عند ربكم". ولقد سأل علي بن ابي طالب رضي الله عنه رسول الله عن سنّته، فقال "... والعقل أصل ديني". صدق رسول الله، عليه الصلاة والسلام. * باحث مصري