ودعت دول شمال افريقيا عقد الثمانينات بآمال عراض. ابتدأ التحول أول ما ابتدأ بالتغيير الذي عرفته تونس في 7 تشرين الثاني نوفمبر 1987، فالانفتاح الديموقراطي في الجزائر من خلال حرية الصحافة وفي إقرار التعددية الحزبية، وسار المغرب في نفس الركاب واستن اصلاحات دستورية تروم ترسيخ المسلسل الديموقراطي... وقد تجسدت هذه الآمال في الاتحاد المغاربي الذي أرسته معاهدة مراكش في 17 شباط فبراير 1989. وقد انصرفت أهداف هذه المعاهدة بصفة معلنة الى تحقيق الوحدة المغاربية والتنمية الاقتصادية، والى حل المشاكل العالقة المرتبطة بترسيم الحدود وحل ما يسمى بالصحراء الغربية بصفة ضمنية. لكن عقد التسعينات أوقف تلك الآمال. وتأثرت دول شمال افريقيا بمضاعفات أزمة الخليج، بالأخص الجزائر، حيث استطاعت بعض الاتجاهات أن توظف التأييد الشعبي والعفوي لشعب العراق لمصلحتها في حملتها الانتخابية، وبلغت الأمور مداها بعد ايقاف المسلسل الانتخابي، ثم أناخت أزمة لوكربي بكلكلها على المجموعة المغاربية، فشلّت عضواً منه أو كادت. وطغت الاعتبارات الأمنية والوطنية على حساب التعاون على مستوى اقليمي. وانعكست هذه الوضعية سلباً على مشكل الصحراء، وعاد الجفاء بين المغرب والجزائر بخصوص هذه المسألة، فطالب المغرب بتجميد الاتحاد المغاربي في ديسمبر من سنة 1995 على اعتبار أن روح معاهدة الاتحاد المغاربي ومتنها يتنافى ودواعي الانفصال أو إيواء تنظيمات مناوئة لوحدة دولة ما وأمنها وفقاً للمادة الخامسة عشرة من المعاهدة. ومن جهة أخرى راحت كل من تونس والمغرب تفاوض على حدة مع المجموعة الأوروبية. ولم تسلم العلاقات الثنائية بين المغرب والجزائر من بعض التوترات المفتعلة في الغالب والتي تغذيها بعض الأقلام غير المسؤولة هنا وهناك. أما موريتانيا فراغت نحو افريقيا جنوب الصحراء وكفت أن تشرئب الى جيرانها في الشمال. وتودع شعوب شمال افريقيا عقد التسعينات بشعور من الخيبة والحسرة في أملها المجهض في الوحدة والتعاون الذي عبرت عنه في الثمانينات بتلقائية وعفوية. فالاهتمامات القطرية هي المهيمنة، والعلاقات الثنائية لا ترقى الى مستوى التطلعات، والاختيارات الاقتصادية في منطقة للتبادل الحر مع أوروبا تنطوي على سلبيات أيضاً فضلاً عن تلكؤ الطرف الأوروبي في دعم تأهيل المقاولات. ويواجه اقتصاد الجزائر تحديات جديدة ليست فقط تلك المرتبطة بإعادة الهيكلة وتخصيص القطاع العام، ولكن ترتبط أيضاً بانخفاض أسعار البترول بشكل مهول. ولا تزال قضية الصحراء الغربية تهدد أمن المنطقة، وتشكل بؤرة من بؤر التوتر التي قد ينسحب أثرها الى حوض بحر الأبيض المتوسط. ثم ان هناك تحديات تلك التي ترتبط بسباق التسلح والبرنامج النووي للجزائر حسبما أوردته جريدة البايس الاسبانية. وأبعد ما تحتاجه المنطقة هو الدخول في دوامة سباق تسلح يهدر طاقات أحوج ما تخصص للمتطلبات الاجتماعية والاقتصادية. فليس يسوغ قطعاً أن نكرر مثال سباق الهند - باكستان، وليس يسوغ أن نرضي كبرياء دولنا على حساب شعوبنا. فبرنامج نووي ليس حتماً خير سبيل لضمان الأمن ودرأ الأخطار لأن طبيعة الأخطار تغيرت ولم تعد دولية ولا عسكرية، ولا سبيل لدفعها إلا في اطار اقليمي أو دولي كأخطار الانجراف المالي أو الأخطار البيئية أو الديموغرافية أو الاثنية. وثالث الأثافي يرتبط بخطر التطرف المستند الى دعاوى دينية أو عرقية. ولا سبيل الى التصدي لهذا الأمر الذي يترصد بدرجات متفاوتة دول شمال افريقيا الا في اطار اقليمي. وخير معالجة له هي في ضمان العيش الكريم لأبنائه والتفكير بعمق وبجد في هويتنا. فهي ليست أحادية، وهي متطورة متفاعلة مع محيطها. ومع ذلك فإن الصورة القاتمة ليست قدراً مقدراً ولا حتمية لا مناص منها. فالاعتبارات الموضوعية ان كانت تفرض ثقلها في اتخاذ القرار فإن الذكاء السياسي هو في فك شق رحى تلك الاعتبارات وتجاوز حتميتها بالخيال المبدع والجرأة وتغليب المصلحة العامة. فليس عزيزاً على الذكاء السياسي لقادة المغرب والجزائر تجاوز الخلافات التي مهما بلغت حدتها ليست بأهم ما ترجيه شعوبنا من عيش كريم وحرية وتعاون ووئام. وليس بمستحيل ايجاد حل لنزاع الصحراء يحفظ مصلح المنطقة بكاملها فتصبح الصحراء منطقة تعاون وصلة وصل بين شمال افريقيا وجنوبها كما كانت عبر التاريخ، عوض أن تكون بؤرة للتوتر، وميزان حرارة للعلاقة المغربية الجزائرية. ويتحتم والحالة هذه قراءة قضية الصحراء قراءة تاريخية وأن يؤخذ بعين الاعتبار ارتباط الصحراء بالدولة المغربية على تعاقب الأسر الحاكمة. فالمغرب ليس دولة استعمارية، وقول مثل هذا يؤذي المغاربة قاطبة ويضرب صفحاً عن النضال الذي خاضه أبناء الصحراء الأشاوس جنباً الى جنب مع اخوتهم في شمال المغرب في الخمسينات لتحرير الصحراء. وليست الصحراء منفصلة الصلة مع ارجاء المغرب ولا مع تركيبته السوسيولوجية. وليس هناك ارادة مبيتة مثلما يشاع لتجريد الصحراء من سماتها الثقافية المميزة. الصحراويون أبناؤنا واخوتنا جزء من نفس السدى الاجتماعي والثقافي، نتفهم دوافع بعض الصحراويين في ظروف تاريخية معينة. ولكن تلك الظروف عفا عليها الزمان ومن المفترض أن يتطور موقف أبنائنا الصحراوين الذين انضووا في البوليساريو. معاناة اخوتنا في المخيمات معاناتنا ولا يمكن الاستهانة بمعاناتهم ولا أوضاعهم المزرية. نقدر صدق الكثيرين منهم ولكننا ننتظر في هذا الظرف شجاعة وجرأة لكي يعودوا الى وطنهم ولكي يسهموا في بنائه. فالمغرب على لسان العاهل المغربي الحسن الثاني ما فتيء ينادي منذ 1986 بأن أبناء الصحراء هم أدرى بشؤونهم، يديرونها في ظل الوحدة. والمغرب طوى صفحة الإحن حينما نادى جلالة الملك الحسن الثاني بأن الوطن غفور رحيم. والمغرب مستعد للحديث مع أبنائه في الصحراء مثلما قال جلالة الملك قبيل انعقاد القمة الافريقي بوكادوكو في حزيران من هذه السنة، لا لتسليمهم الصحراء ولكن ليعودوا الى حظيرة الوطن. قضية الصحراء هي مفترق الطرق. فإما أن تظل بؤرة للتوتر وإذاك ستنعكس سلبياتها على المنطقة بأكملها. واما أن تكون منطلقاً للتعاون والتآزر لبناء الوحدة المغاربية. والى هذا المنحى ينبغي أن تنصرف جهودنا لأنه هو الخيار الوحيد لتجنيب منطقتنا أسباب الفرقة وعدم الاستقرار، ولرفع التحديات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي ترين علينا. وما أكثرها. * كاتب مغربي