أخطأ كل من الرئيس العراقي صدام حسين ورئيس القوة العظمى الوحيدة في العالم بيل كلينتون في تقديراته وحساباته في سياق التوتر الذي واكب الازمة الاخيرة بين الجانبين. فقد بدا واضحاً أن صدام حسين قدّر في آب أغسطس الماضي حين امتنع عن التعاون مع مفتشي اللجنة الدولية الخاصة المكلفة إزالة أسلحة الدمار الشامل العراقية يونسكوم، أن كلينتون ضعيف سياسياً، وأنه سيبقى كذلك زمناً. وربما وجد المرء أن التقديرات العراقية لم تكن سيئة بكاملها، إذا عاد الى الاسابيع الاخيرة من آب الماضي بعدما تعمقت الازمة بين الطرفين. ففي 17 آب أُلقي بالرئيس كلينتون في لجة ارتباك سياسي بعدما اضطر الى الاعتراف على شاشات التلفزة بأنه لم يقل الحقيقة الى شعبه في شأن علاقته مع الآنسة مونيكا لوينسكي. ورأى كثيرون أن كلينتون ضعف ضعفاً شديداً حتى غدا على شفير الانهيار، وبين هؤلاء نيوت غيتغريتش ومعظم المعلقين السياسيين، وأنا منهم. وفي شباط فبراير الماضي، بعد شهر فحسب من تفاقم أزمة فضيحة لوينسكي ومضاعفاتها الداخلية، بدا الرئيس الاميركي ضعيفاً للغاية من جوانب عدة، الى درجة عدم القدرة على دفع المواجهة مع صدام حسين الى نقطة الاشتعال، وتراجع في نهاية المطاف. أما هذه المرة، فربما افترض صدام حسين أن الشيء نفسه حصل ثانية. غير أن شباط ليس تشرين الثاني. إذ دخلت انتخابات التجديد النصفي لأعضاء الكونغرس بين الازمتين - أو تحديداً بين ما حصل في 17 آب و14 تشرين الثاني. فعززت وضع كلينتون الداخلي، وأحدثت هزة قوية في صفوف خصومه الجمهوريين. ولو مضى كلينتون قدماً في تهديده بضرب العراق في 14 تشرين الثاني الماضي، لكانت هناك فرصة طيبة - هكذا كان ينصحه مستشاروه - بأنه لن يُنظر الى الضربة الاميركية للعراق في الداخل والخارج باعتبارها مناورة فحسب لصرف الانظار عن مشاغله الداخلية. بل ربما نظر كثير من الاميركيين وحلفاء أميركا الى ضرب العراق في منتصف الشهر الماضي باعتباره تصرفاً من رجل دولة نجح في تجاوز فضيحة "مونيكا غيت". أما إساءة فهم ذلك فكان خطأ في التقدير من جانب صدام حسين. غير أنه في اللحظة الاخيرة نجح أحد معاونيه في إقناعه بأن تشرين الثاني ليس هو شباط، وبأن المد السياسي العالمي في العالم العربي وداخل الولاياتالمتحدة أقل محاباة له مما كان عليه الوضع في شباط الماضي. وهكذا تراجع الرئيس العراقي. اذن ماذا في شأن سوء التقدير من جانب كلينتون؟ باعتقادي أن ذلك يتمثل في تصوره أن صفقة مزرعة واي تمثل انجازاً ديبلوماسياً مهماً. ولكن يبدو واضحاً الآن أن جزء كبيراً مما سعى كلينتون الى تحقيقه في واي يتمثل في الحصول على موافقة عربية عامة على ديبلوماسية إدارته. وهو أمر لم يتسن له الحصول عليه. غير أن مبعوثيه راحوا يجوبون المنطقة العربية طولاً وعرضاً بعد عشرة زيام من توقيع الاتفاق يبحثون عن أكبر قدر ممكن من التأييد للاتفاق. والواقع أنهم لم يحصلوا على ما كانوا يرومون ولم يحصلوا على تأييد لاتفاق ليست له فائدة تذكر وبعد فوات الأوان. ولماذا هذا الحرص على الحصول على مساندة الدول العربية؟ لأنهم كانوا يعدون العدة أصلاً للمواجهة مع العراق. غير أن خطأ التقدير من جانب الرئيس كلينتون في شأن توازن القوى المؤثرة في الشرق الاوسط يتمثل في أنه لم يكن جدياً مثل نظرة صدام حسين في ما يتعلق بالتوازن السياسي داخل الولاياتالمتحدة. إذ إن الحقيقة المؤلمة تتمثل في أنه مهما كانت ضآلة حجم القضايا الداخلية الاميركية فهي أهم من الشرق الاوسط هذه الايام، وأهم من حال الصراع العربي-الاسرائيلي. وثمة أسباب عدة وراء ذلك، منها تفكيك المنظمات المدنية الفلسطينية على يد السلطة الفلسطينية والاسرائيليين، الى جانب ضعف أسعار النفط.وما صدقت فيه تقديرات مؤيدي الرئيس كلينتون أن أي نظام عربي - عدا العراق - يشعر حالياً بأن مصالحه تتطابق الى درجة كبيرة مع مصالح الغرب. غير أن الحقيقة التي تعلو على تلك الاسباب تتمثل في أن واشنطن حالياً سيدة العالم كله وليس الشرق الاوسط وحده. لقد أنقذ تراجع صدام حسين العراقيين - موقتاً - من اعتداء أميركي آخر بصواريخ كروز. لكن الجديد الذي أتى به بدلاً من ذلك اعلان الرئيس الاميركي صراحة أنه بات يسعى الى تغيير الحكم في بغداد. وهو نوع خطير من التصعيد السياسي لن تستطيع أي إدارة أميركية أن تداريه مهما تشدقت بحرصها على وحدة الاراضي العراقية وسلامته. وقد يكون صحيحاً أن الرئيس الأميركي الذي سعى سابقاً الى تفادي الالتزام علناً إطاحة صدام حسين شعر بأنه ليس أمامه بدّ من أن يعلن ذلك في 15 تشرين الثاني الماضي، في الكلمة نفسها التي أعلن فيها قبوله رسالة الاستسلام التي أرسلها صدام حسين في شأن يونسكوم، وأنه فعل ذلك من أجل تبديد الاتهامات التي وجهها اليه خصومه الداخليون بدعوى أنه كان رؤوفاً للغاية في تعامله مع الرئيس العراقي. بيد أنه تبقى الحقيقة المتمثلة في أن الاميركيين وغيرهم لا يفقهون شيئاً عن سبل إحداث التغيير المقترح في العراق. وغني عن القول أن إعلان الرئيس الاميركي النزاماً علنياً في هذا الخصوص لن يساعد مشروع التغيير بشكل تلقائي، بل العكس هو الصحيح. هل يعني إعلان السياسة الاميركية الجديدة تجاه العراق أن كلينتون ومساعديه لا يأبهون باحتمال تحقيق يونسكون نتائج طيبة من عملياتها في العراق؟ فعلى رغم كل شيء يبدو أن "اونسكوم" والعقوبات نفسها تقومان على مبدأ محاولة "إغواء" صدام حسين للانصياع باستخدام الوعد برفع العقوبات ليكون بمثابة "جزرة". ولكي تنجح "اونسكوم" بهذا المعنى، فهي بحاجة الى رئيس حكومة في بغداد يتسم بالصدقية حتى يستجيب ويتفاعل مع إجراءاتها. وربما حاول الاميركيون والاسرائيليون وجهات أخرى استخدام "اونسكوم" لاهداف مختلفة عن اهدافها الحقيقية. ففيم سيستخدمونها الآن؟ ومثلما كان يحصل في السابق، ستستمر معاناة الشعب العراقي المنكوب بين مطرقة نظام قمعي وسندان القوة العظمى الوحيدة التي لا يهمهما إلا تحقق ما يرضيها. إذ يجب ألا يغيب عن بالنا أن كل مسؤولي الادارة الاميركية كانوا يدركون - الى حين وصول رسالة صدام حسين في 14 تشرين الثاني - أنهم كانوا قد حسموا أمرهم للقيام بهجوم يعرفون أنه يسيفر على الاقل عن مقتل 10 آلاف مواطن عراقي. وتماماً، على غرار ما حصل للعراقيين على مدى السنوات الثماني الماضية، فقد تُركوا اليوم بلا خيارات تذكر. * كاتبة بريطانية متخصصة في شؤون الشرق الاوسط.