لو أن إنساناً من عالم آخر، لا يعرف عن عالمنا وعن القضية الفلسطينية الكثير، راجع الصحافة العربية والغربية والمواقف الرسمية حول السلام في الشرق الأوسط ابتداء من مذكرة "واي بلانتيشن" وعودة إلى وصول نتانياهو إلى السلطة في إسرائيل، فبأي انطباع سيخرج وأي أسئلة ستتوارد في خاطره؟ لعل انطباعه الأول سيكون عن القوة الكبيرة التي يتمتع بها كل من نتانياهو وعرفات. فعلى الرغم من صغر حجمهما ووزنهما يتصرفان ويتحركان، كما توحي الأقوال، دون الاصغاء لحليفيهما طرفي الصراع: المعسكر الغربي بتاريخه الداعم لإسرائيل ووجودها وأمنها، والجانب العربي باعتباره صاحب القضية الفلسطينية. الانتقادات ل "مذكرة واي" وللزعيم الفلسطيني، ومعظمها منطقي ومحق، كانت القاسم المشترك الأعظم في الصحافة ووسائل الاعلام العربية من المحيط إلى الخليج. الأطراف النادرة المؤيدة كانت حذرة ومتحفظة وتستدل بعبارة "العبرة في التنفيد". يسأل إنساننا الجاهل بالموضوع: إذا كان معظم الفلسطينيين والعرب لا يوافق على ما جرى، فمن أين لعرفات، الضعيف أمام نتانياهو، القوة والقدرة على الاستقلال عن المعسكر العربي - الفلسطيني المتمسك بسلام عادل وبالحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني؟ الانتقاد والامتعاض من سياسة نتانياهو في الصحافة الغربية وعلى المستويات الرسمية لم تعرفه إسرائيل ولم تعهده في تاريخها. لكن المفارقة بين ايمان العالم في انجاز السلام في الشرق الأوسط وبين تصرفات نتانياهو المدمرة لأسس أي سلام تدفع إلى السؤال: كيف يمكنه القيام بذلك طالما تُعارض سياسته وتنتقد في الغرب ومن الفلسطينيين والعرب ومن أكثر من نصف المجتمع الإسرائيلي؟ بمتابعة القراءة سيجد انساننا نفسه يخوص في سلسلة من متاهات المواقف والتداخلات. نصف أسئلة ونصف أجوبة. كأن الشرق الغامض والاسطوري لم يتغير وما يزال مستثنى من خريطة الوضوح والعقلانية. أما الغرب العقلاني، والواضح بمواقفه وسياسته في كل مكان، فهو عندما يصل إلى المنطقة سيظهر بغموضه المتعمد أو "البنّاء" كما قيل في الماضي القريب، وكأنه يتكلم لغة أهل الشرق بمقدار ما يحفظ أمن وسلامة مصالحه. وإذ يسأل الإنسان، وكما فعل بعض الفلسطينيين والعرب، لماذا يستمر عرفات في التفاوض، في حين يستمر الآخر في تعطيل الاتفاقيات ومصادرة الأرض وتوسيع المستوطنات، لا يجد من جواب سوى التفكير أنه إذا كان رئيس أقوى دولة في العالم يخصص تسعة أيام في "واي بلانتيشن" ليقنع نتانياهو بتنفيذ اتفاقيات سابقة، فماذا يمكن لعرفات أن يفعل؟ وسيجد سؤالاً يوجهه رافضو السياسة الفلسطينية: لماذا اوصل عرفات نفسه إلى هذا الموقع ولماذا يستمر في الخضوع للواقع؟ سؤال محق لولا أن أحداً لا يقدم بديلاً سوى النضال وانتظار توحيد جهود الأمة العربية والإسلامية، لتحرير فلسطين. سؤال محق، إلا أنه ينم عن رؤية تحوّل الواقع إلى رغبة شخصية، ومن هنا تكون أنصاف حلولها رغائبية ذاتية لا واقعية. لا شك في مساهمة الرئيس الفلسطيني في هذا الواقع وإضعافه الأداء الفلسطيني العام بديكتاتوريته وتغاضيه عن الفساد في أجهزته ومؤسساته. لو كان الأمر رغبة ذاتية عرفاتية فقط، لكان الواقع، الفلسطيني والعربي، تصدى لها وأجبرها على تغيير اتجاهها. وجود عرفات على رأس السلطة الفلسطينية وسابقاً قائداً للثورة هو محصلة الواقع الفلسطيني أولاً، كما هو محصلة الواقع العربي وتأثيراته بالدرجة الثانية. وإذا كان في امكان المعارضة أن تفعل شيئاً ينقذ القضية ويوقف إهدار الحقوق. فلماذا لم تفعله بعد وماذا تنتظر؟ سيقرأ الإنسان الغريب عن عقد فصائل وشخصيات فلسطينية مؤتمراً يعارض تعديل الميثاق الوطني ويتمسك بالحقوق الفلسطينية، كما سيقرأ عن رفض المعارضة دعوة السلطة الفلسطينية للمشاركة في مفاوضات الوضع الدائم تحت "سقف أوسلو". أما السياسة "الواقعية العملية الوطنية"، حسب نايف حوانمة، فتقرر جعل "المرجعية الدولية هي الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن" بغض النظر عن استعداد الصين أو روسيا أو فرنسا، ناهيك عن بريطانيا، للعب هذا الدور في مواجهة واشنطن، كما تطلب "ان تكون المرجعية الوطنية للمفاوضات ائتلاف منظمة التحرير... وليس سلطة الحكم الذاتي". وعلى أرض الواقع يرأس عرفات المنظمة والسلطة الوطنية معاً. وفي حين يُطالب بإعلان "بسط سيادة دولة فلسطين في 4/5/1999 على كل الأراضي المحتلة"، وهذا ما يمكن أن تقوم به السلطة الفلسطينية وعلى أساس الواقع الناجم عن "أوسلو"، فإن فصائل المعارضة ترفض "أوسلو" وإفرازاته من الأساس. كيف ولماذا؟ لا جوب، فنصف الأسئلة لا يجد أكثر من نصف جواب. إذن، المطلوب العودة إلى "إئتلاف منظمة التحرير وعلى أساسه البرنامج المشترك"، أي مشاركة تلك الفصائل في السلطة، أما باقي الكلام عن الالتزام بالشرعية الدولية وقرارات الأممالمتحدة والمطالبة بدور أوروبي في عملية السلام فلا حاجة لتكراره لأن عرفات وسلطته تعزف عليه بشكل يومي. لا يعني الكلام السابق نفي تنازلات عرفات والمخاطر الجدية التي تواجهها القضية الفلسطينية أمام السعي الإسرائيلي والغطاء الأميركي لطي قضية اللاجئين والقدس وضم جزء كبير من الأراضي المحتلة، كما لا يعني رفض مشاركة الفصائل المعارضة في المسيرة الفلسطينية، وهذا ما تطالب به السلطة الوطنية قبل المعارضة، ولكن الخوف هو من عودتها للعب دور المعارضة الشكلية كما في الماضي القريب قبل "أوسلو". لو يذهب الإنسان الغريب إلى الماضي الفلسطيني يجد الفصائل الفلسطينية جزءاً من مرحلة تاريخية مثلها وقادها عرفات وكانوا، بشكل أو بآخر، منها وفيها ومسؤولين عن انجازاتها واخطائها، وليست ديكتاتورية عرفات وما يمارسه على الساحة الفلسطينية ككل إلا تتويجاً لواقع وممارسات الأمناء العامين داخل تنظيماتهم وفي مؤسسات منظمة التحرير. وإذا كان الرئيس الفلسطيني في آخر مقابلة له مع محطة ال "سي. ان. ان" أصر على الاستمرار في قيادة السفينة الفلسطينية وكما كان منذ 1969، فإن الأمناء العامين، بدورهم، باقون في مراكزهم حتى تحرير التراب الفلسطيني أو الوفاة بعد طول عمر. عندما انتقل عرفات إلى غزة وأريحا لم يبق أمام المعارضة من دور سوى اللحاق به ولعب دورها السابق، كما فعل بعضهم، أو الحلم بعودته إليهم كلما تعثرت العملية السلمية وتعنت الطرف الإسرائيلي فتتكرر دعواتهم "لحوار فلسطيني - فلسطيني استراتيجي لإعادة بناء المرجعية الوطنية الفلسطينية". كلام جميل يتجاهل الواقع الذي وصلت إليه السلطة الوطنية ويتجاهل دور عرفات المعترف به عربياً ودولياً وفلسطينياً، ويتجاهل أنه يريد عودتهم وعودة الائتلاف السابق لأنهم جزء من تاريخه والواقع، بغض النظر عن تصريحاتهم. يعود الإنسان الغريب ليسأل بسذاجة: إذا كان الغرب لا يود أن يقول لا لنتانياهو، فلماذا لا يقولها العرب لعرفات؟ سيجد جواباً منطقياً: نرتضي للفلسطينيين ما يرتضونه لأنفسهم. وماذا تريد أكثر من سؤال رئيس أكبر دولة عربية لعرفات: بماذا يمكن ان نساعدكم؟ فيرد الأخير، الحريص على استقلالية قراره، مطالباً العرب بالتنسيق مع سياسته وتأخير التطبيع. وسيقرأ تبريراً فلسطينياً لم نستطع عقد قمة مصغرة ولا قمة عربية شاملة. وسيجد كلاماً فلسطينياً رافضاً يؤكد أن الاستقلالية الفلسطينية شرك وقع فيه عرفات ومنظمة التحرير ولا يخدم إلا العرب الساعين للتخلص من عبء القضية الفلسطينية. يتمنى لو يسأل: ما المقصود بالعرب، أكثر من 20 دولة بهمومها وأزماتها الخاصة على أرض الواقع أم أمة عربية واحدة وقوية يحلم بها الكثيرون؟! عند هذا الحد يقرر إنساننا الانتقال إلى الدولة الأعظم في العالم بحثاً عن وضوح لما قد يفسر ما يجري فلا يجده إلا في ما يتعلق بحدود وأمن وإسرائيل. فواشنطن لا تدين صراحة سياسة نتانياهو وفي الوقت ذاته لا تعلن موقفاً جلياً من الحق الفلسطيني في تقرير المصير. انتقادات وإشارات وتلميحات في حاجة لتفسيرات ومفاوضات بين الأطراف المعنية مع التزام أميركي بمساعدتها على التفاوض. أقصى ما يمكن العثور عليه تصريح كلينتون أمام مؤتمر الدول المانحة لمساعدة السلطة الفلسطينية: "للفلسطينيين الحق في الأشياء نفسها التي تطمح إليها الشعوب الأخرى كلها في أن يكونوا جزءاً من مجتمع طبيعي وسعيد". "الأشياء كلها" توحي بالكثير وقد لا تعني شيئاً، ولكل أن يفسرها على مزاج مصلحته ومقدار قدرته على جعل تفسيره واقعاً قائماً. في هذه الفترة سيقرأ تصريحاً لرئيس أميركي سابق، كارتر، واضح ويفسر غموض الرئيس الحالي، حيث يقول إنه كان دائماً مع انشاء دولة فلسطينية. ولعل كلينتون عندما يعود مواطناً عادياً سيتكلم بصراحة عن الحقوق الفلسطينية، وسيحب لصحافي غربي قوله: في السابق لم يفسح لا الأردن ولا مصر المجال للفلسطينيين لإنشاء دولة على أرضهم في الضفة الغربيةوغزة وحصولهم الآن على جزء من أرضهم خطوة في الاتجاه الصحيح. وعرفات لا يزال يهدد بإعلان الدولة في نهاية الفترة الانتقالية ل "أوسلو". إلا أن الخروج عن حال أو معادلة الغموض الأميركية مرفوض فتجمع الردود، في الغرب، على تذكيره بأن الأمر تصرف من جانب واحد وغير مقبول. حتى فرنسا تتمسك بالموقف المذكور مع أنها تتقدم بموقفها على واشنطن وتؤيد صراحة حق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير وتعلن عن استعدادها، مع الاتحاد الأوروبي، للمساعدة في بناء الدولة. أما سياسة نتانياهو فيشار إليها بشكل غير مباشر حين يعبر الرئيس شيراك عن أسفه "لكون اتفاق أوسلو لم يكن موضع الاحترام والالتزام". على طريقة لغة أهل الشرق، نصف أسئلة ونصف أجوبة وحلول مجزوءة، يسأل الإنسان الجاهل، بعد أن عرف قليلاً من الموضوع، هل وقاحة وقوة نتانياهو من قوة إسرائيل أم من معادلة الغموض الأميركي، الغربي، من حقوق الفلسطينيين؟ هل قوة عرفات وجرأته على الاستمرار في سياسة التفاوض ناجمة عن انجازه شيئاً ما على أرض الواقع أم أنها حصيلة الموقف الفلسطيني والعربي العام؟ هل انتقاد سياسة عرفات تعبر عن التفاف العرب حول فلسطين أم أنه الوحيد الممكن انتقاده؟ كيف يمكن للعرب والفلسطينيين توضيح الموقف الأميركي، الغربي، من حقوق الفلسطينيين بسياسة واقعية وعلى أرضية الواقع العربي - الفلسطيني؟ أم سيكتفى بنقد ازدواجية واشنطن وكفى الله المؤمنين شر القتال؟! هل يمكن الحلم بأن يراجع عرفات حال سلطته ويحارب الفساد ويرسخ المؤسسات ويحفظ حرية وحقوق الإنسان؟ وهل يمكن الحلم بمراجعة فصائل المعارضة الفلسطينية لواقعها وأن تترجم دعواتها للنضال ضد الاستيطان والاحتلال بوسائل مجدية وبمشاركة شعبية، لا بردود فعل وعمليات انتحارية موسمية تستهدف المدنيين ولا تخدم المصلحة الفلسطينية؟ لو عاد الإنسان الغريب إلى بداية القرن لاكتشف ان الغموض الأميركي ليس إلا امتداداً لموقف غربي استثنى شعب فلسطين من امكانية حق تقرير المصير، عندما ربط الانتداب البريطاني بتصريح بلفور في مؤتمر الصلح في أعقاب الحرب العالمية الأولى. استثناء فلسطين أصبح استثناء لإسرائيل من النقد والعقوبات وتنفيذ قرارات الأممالمتحدة. واليوم مع كل الاحباطات والمخاطر والحال العربية والفلسطينية، هناك اهتزاز في صورة إسرائيل واستثنائها. وهناك تعاطف وفهم وتأييد لحق الفلسطينيين بتقرير مصيرهم، ولكن، ما زالت مهمة الفلسطينيين بمساعدة العرب ايصاله إلى مستوى طموحاتهم المشروعة. * كاتب فلسطيني