الأصابع الإيرانية تحرك دمى التعددية في العراق منذ سقوط نظام صدام حسين واجه العراق مخاضا عسيرا لولادة دولته العصرية والديموقراطية التي حلم بها الشعب العراقي. إلا أن هذا الحلم تلاشى بمرور الوقت إذ وجد الشعب نفسه أمام حزمة من مخلفات الغزو الأميركي، أحزاب لا تعمل لمصلحة الدولة، وتدخل إيراني سافر، وحكومة قادها رئيس الوزراء السابق نوري المالكي تورطت في تكريس الانقسام والفساد، وإفساح المجال لانتشار التنظيمات الإرهابية، وعلى رأسها تنظيم داعش، فيما لم تنجح الحكومة الحالية برئاسة حيدر العبادي حتى الآن في إصلاح ما أفسده المالكي. وفي هذا السياق قال نشطاء عراقيون، إن عمق أزمة بلادهم تتجاوز محاربة الإرهاب، ممثلا في تنظيم داعش، إلى تصارع القوى السياسية وتعطيل الحوار الوطني نتيجة الخلافات الفكرية والعقائدية، مستشهدين في ذلك بالانتخابات التشريعية الأخيرة، حيث تقدم آلاف المرشحين عن أكثر من 600 كيان سياسي، مشيرين إلى أن هذا الكم الهائل من التنظيمات السياسية تعطي فكرة واضحة عن التعددية المفرطة في مكونات الشعب العراقي، الإثنية والدينية والمذهبية، كما يعكس هاجس الخوف والشك والريبة بين القيادات السياسية، وتصارعها على المناصب والنفوذ والثروة، إضافة إلى الإرهاب وتفشي الفساد. ويرجع المركز العراقي للدراسات الاستراتيجية استفحال الأزمة إلى التغلغل الإيراني في العراق، الذي يقابله صمت أميركي. ويقول المركز إن إيران تريد الهيمنة على العراق لتحقيق أهداف عدة، منها طرق أبواب الوطن العربي من خلال دولة فارسية، وكذلك فرض نفسها كقوة إقليمية بالمنطقة. كما كشفت دراسة حديثة أن المخابرات الإيرانية تلعب دورا رئيسا في العراق، وأنها أنشأت فرقا للموت من أعضاء المنظمات المتطرفة، مهمتهم تنفيذ عمليات التصفية الجسدية في شتى أنحاء البلاد، لإرهاب العراقيين وإجبارهم على تنفيذ سياستها. غياب المؤسسات المدنية يفشل الحوار الليبي غاب الحوار الوطني عن ليبيا عقودا طويلة، حيث خضعت البلاد لنظام الرجل الواحد، والكلمة الواحدة، والرؤية الأحادية. إلا أن إزاحة نظام معمر القذافي عام 2011، لم تكن كافية لإعادة الحياة السياسية إلى المجتمع الليبي، الذي استيقظ على فاجعة أخرى تلت ضربات حلف الناتو، حيث تحولت ليبيا إلى ساحة من الحرب وفي أكثر من جبهة، وتصارع المسلحون والساسة للسيطرة على الأرض والمشهد السياسي، فيما ظهرت جماعة تابعة لتنظيم لداعش، لتؤسس لنفسها معقلا قويا في مدينة درنة شرقي البلاد. المشهد السياسي الليبي المعقد، أصعب في حله مما تسعى إليه الأممالمتحدة، من خلال مبعوثها الدولي برناردينو ليون، ووفقا لمحللين فإن هذا المشهد يضم العديد من الأطراف المتصارعة، كما أن الوضع على الأرض أكثر صعوبة. يرى الكاتب إسماعيل القريتلي أن جهود المبعوث الدولي بين الأطراف المتنازعة في ليبيا وتوصله إلى اتفاق بحكومة وفاق وطني، قد لا يؤدي لحل الأزمة الليبية، ويقول إن أغلب الأسماء المطروحة كانت من مكونات المشهد السياسي والاجتماعي المأزوم، الذي ظهر بعد سقوط القذافي، وبالتالي قد يكونون من مسببات الأزمة في المستقبل. الحوثيون صادروا الشرعية باسم الحوار وضع الشعب اليمني كل آماله في مؤتمر الحوار الوطني الذي عقد عام 2013 واستمر عشرة أشهر لم تكن كافية، رغم طولها، لإيجاد حلول عاجلة للأزمات التي تسبب فيها الرئيس المخلوع علي عبدالله صالح الذي اعتاد اللعب على المتناقضات، وأهدر موارد البلاد في مغامرات عسكرية غير ذات فائدة، واستنزفها لمصلحته الشخصية ومصالح الدائرة اللصيقة به، وعرض الوحدة الوطنية للبلاد إلى خطر داهم. الحوار الذي انطلق عقب الإطاحة بنظام صالح، وتوفرت له عناصر النجاح كافة، من تنازلات كثيرة قدمتها حكومة الرئيس عبدربه منصور هادي لكل ألوان الطيف السياسي، وتأييد إقليمي ودولي منقطع النظير، وجد أمامه عددا من المحطات الملغومة، في مقدمتها إصرار حزب المخلوع على إفشال الحوار، وانسحابه المتكرر من الجلسات، ولجوئه إلى سياسة الاغتيالات التي طالت بعض المشاركين في الحوار، لأجل إثارة الأحقاد واحتقان المشهد السياسي. عقد المؤتمر تحت شعار "بالحوار نصنع المستقبل"، وتمت مناقشة كل تفاصيل الخلاف، ولم يستثن أحد من الحضور، وشاركت الحركة المتمردة للمرة الأولى، ما مثل اعترافا رسميا بها ككيان سياسي، ومع ذلك لم تتردد في اجتياح البلاد واحتلالها، وفرض سلطة الأمر الواقع، استنادا إلى تحريض إيراني متكرر. وبينما كانت البلاد تستشرف عهدا جديدا، بتنفيذ تلك المخرجات التوافقية، فاجأت جماعة الحوثيين المتمردة العالم كله بانقضاضها على الشرعية، واجتياحها العاصمة، ومصادرة حق الآخرين في البقاء والحياة، ونهبت -بتواطؤ تام مع المخلوع علي صالح- مخازن الجيش، ووجهت أسلحته نحو صدور أبناء اليمن، مما استلزم شن عمليات عاصفة الحزم التي جاءت للحفاظ على البلاد واستعادة السلطة الشرعية. نوبل يتوج التونسية أبها: الوطن بينما ضربت تونس مثلا عربيا في قدرة الحوار الوطني على تقديم المصالح العليا للوطن، وإنقاذ البلاد من الصراعات والانقسامات، وهو ما توج بفوز الرباعي التونسي الراعي للحوار الوطني بجائزة نوبل للسلام هذا العام، يظل هذا المثل مقصورا على تونس فقط، دونا عن كل دول ما يسمى ب"الربيع العربي" وغيرها، التي ما زال عدد منها يعاني الفشل في استخدام الحوار بين التيارات السياسية المتناحرة، التي استبدلت مفاهيم التفاوض بآليات عنف أودت بهذه البلاد إلى دائرة الحروب الأهلية والاقتتال ولتسهم في الوقت نفسه في تنامي التنظيمات الإرهابية داخلها، والتهديد بانهيار الأوضاع. وأشارت تقارير إلى أن نجاح تجربة الحوار الوطني في تونس وإخفاقها في دول أخرى، مثل سورية، واليمن، وليبيا، والعراق، ولبنان، يرجع لأسباب عدة تأتي في مقدمتها طبيعة المجتمع التونسي نفسه، واعتماده على مؤسسات المجتمع المدني، الممثلة في الرباعي الذي نال الجائزة العالمية، وتبنيه لعقيدة الوحدة الوطنية، الناظمة لفكر الأحزاب الوطنية ذات المنهج الديمقراطي، التي برزت في أعقاب ثورة الياسمين، حيث اهتمت التيارات السياسية في تونس بالحفاظ على مؤسسات الدولة واتباع منهج العقلانية والحوار لحل الخلافات السياسية والأيديولوجية. دور المجتمع المدني وأشارت التقارير إلى أن فوز حركة النهضة في الانتخابات التشريعية بتونس عام 2012، لم يحدث الانشقاق الذي وقع بمصر عندما فازت جماعة الإخوان بالانتخابات البرلمانية والرئاسية في العام نفسه، ومن ثم فقد نجح التونسيون في إقصاء حركة النهضة بعد ذلك، عبر عملية ديمقراطية انتهت بوصول حركة نداء تونس، التي شكلها الرئيس الباجي قائد السبسي إلى أن وصل للحكم في نهاية عام 2014. من ناحية ثانية – وحسب التقارير– يأتي الدور المهم الذي قام به الرباعي التونسي الراعي للحوار الوطني، الذي يضم الاتحاد العام التونسي للشغل، واتحاد الصناعة والتجارة، والهيئة الوطنية للمحامين، ورابطة الدفاع عن حقوق الإنسان، حيث أسهمت المنظمات الأربع، بما تحمله من تراث ثقافي يناهض الحزبية الفئوية، ويفضل السلم الاجتماعي، في الاستحواذ على السلطة، ما أسهم في إيجاد حوار ديمقراطي بين مختلف التيارات السياسية، فضلا عن أن اتحاد الشغل، بما يضمه من فئات عريضة سهل من مهمة تحقيق توافق مجتمعي أنقذ الدولة التونسية من الدخول في دائرة الصراعات. الجلسات الشكلية في سورية قادت إلى الكارثة يجسد الصراع السوري المشتعل منذ أكثر من أربع سنوات، المخاطر الحقيقية لتعطل الحوار الوطني، إذ عانى الشعب السوري على مدار أربعة عقود، القهرَ وغياب الديموقراطية، وانسداد قنوات الاتصال بين نظام الأسد (الأب، والابن) الحاكم من جهة، وكل القوى السياسية من جهة أخرى، ما أفضى في النهاية إلى اشتعال الثورة الشعبية 2011 ضد النظام الديكتاتوري الذي لم يرفض فقط الحوار مع الثوار، بل لجأ إلى كل أشكال القتل والدمار لقمع الثورة. تواصل الديكتاتورية وقالت دراسة لمركز "سابان لسياسة الشرق الأوسط" في معهد بروكينجز، إن كل الدلائل كانت تشير إلى اشتعال الثورة ضد بشار الذي سار على نهج أبيه في ممارسة القمع، دون الاستجابة إلى مطالب المجتمع المدني بإنهاء حالة الطوارئ والأحكام العرفية، وإقامة دولة القانون، ومنح الحريات العامة، فضلا عن رفضه الدخول في حوار وطني شامل، تشارك فيه مختلف التيارات السياسية لإقامة دولة العدالة والحق الغائبة عن سورية. معارضة وهمية ولم يكتف الأسد بقمع الشعب المطالب بالحرية، بل رفض الدخول في أي حوار جاد لحل المشكلة، واكتفى بجلسات حوار مظهرية مع ما تسمى ب"معارضة الداخل" التي يؤكد الائتلاف الوطني لقوى الثورة أنها إحدى صنائع النظام، كما تسبب تعنت النظام في إفشال كل المحاولات السلمية التي تمت لوضع حد للأزمة، مثل مؤتمري جنيف 1و2. وتسبب فشل الحوار الوطني في سورية بلجوء المعارضة لآخر الأوراق الموجودة في يدها وهي الثورة المسلحة، ما أدى في النهاية إلى ظهور تنظيم داعش الذي يستخدمه الأسد كفزاعة للعالم، مفادها أنه هو البديل لنظام الحكم الحالي.