شهدت العواصم الاوروبية طوال الاعوام الماضية مؤتمرات وندوات عدة بمشاركة مفكرين ورجال دين من مختلف الاديان، تارة للبحث في التقريب والحوار بين الاديان السماوية الثلاثة وتارة اخرى للحوار بين الإسلام والغرب. وتقرر اخيراً أن يعقد مؤتمر حكومي رسمي في برلين في نيسان ابريل 1999 لوضع اسس الحوار بين الاسلام والغرب. وفي تصورنا فإن هذه المسألة برمتها بحاجة الى الكثير من التأمل، ونوجز ملاحظاتنا في شأنها في النقاط التالية: أولاً: ان الحوار بين الاديان يجب ان يكون هدفه ان يوضح اتباع كل ديانة جوهر هذه الديانة الصحيح، وان الاديان السماوية جميعا جاءت من مصدر واحد، كما ان الرسل، عليهم جميعاً ازكى التسليم، هم محل توقير اتباع الديانات جميعاً وهم يتفاضلون عند الله الذي بعثهم. وأما ان يعترف اصحاب ديانة معينة برسول ديانة اخرى او لا يعترفون، فهذه قضية خارج المناقشة. ولا يجوز قطعاً ان يكون هدف الحوار او موضوعه الاتفاق على وقف الدعوة الى احد هذه الاديان وتحويل اتباع أي دين الى دين آخر، فلا بد من ترشيد معنى الدعوة الى الله، ما دامت كل الاديان تمثل معابر الى النجاة وحبال مدها الله الى عباده في كل العصور. ويجب ألا يمر بالخاطر ان معنى التقريب بين الاديان ان يتحول رجال الدين الى ساسة فيقدم كل منهم تنازلات تكفل عدم التصادم بين أنصار هذه الديانات، وإنما يجب ان ينصرف معنى التقريب الى البحث في الاصول العامة بكل الديانات وهي قطعا واحدة، مع اختلاف التكليفات في كل منها، بغض النظر عن مدى الحجية التي تقنع بها الرسالات السماوية عند أتباع هذه الرسالات. وقد يدلف البحث الى استنباط العبر في هذه الرسالات مما اصابه الانسان من تقدم علمي وإبهار تكنولوجي يشهد على قدرة الله ولا يناقض أحكامه. ثانياً: انه لا يجوز مطلقاً ان يتضمن برنامج التقريب بين الاديان محاولة البعض ان يلوي عنق الحقائق العلمية لكي يقرب بين العلم والدين ويحدث مصالحة تاريخية بينهما حسب زعمهم، خصوصا ان هذا الزعم يفترض ان الهوة تتسع بين الدين والعلم الذي تنفسح امامه مجالات هائلة من الفتوحات والتجليات. فالثابت علميًا ان الله الذي خلق كل شيء وأخبر عن حقائق لم يكن العقل ببالغها جعل للعقل وظائف وأعانه على ادراكها، وكلما توغل العقل في إدراك الحقائق وألّم بحكمة الكون، قدم الادلة القطعية على صدق الله في ما اخبر: فالدين هو الثابت والعلم هو المتغير، الدين اصل والعلم تابع. واذا بدا للبعض تناقض بين الاصل والتابع فالعيب في مدركاتنا وليس في ما قد يظن في الدين من غموض او قصور. ويرتبط بهذه النقطة ان يعرف رجال الدين مجال الدين ومجال العلم، وليس مطلوباً ان يكون للدين كلمة في كل ما يعرض للانسان في حياته المتنوعة. ثالثاً: يتصل بالنقطة السابقة ان المسلم مثلا يجب ان يقدم صحيح دينه استناداً واعتزازاً بكتاب الله وصحيح سنة نبيه عليه الصلاة والسلام بنبرة موضوعية لا تتسم بالاعتذار أو بالمغالاة والمكابرة، بل بالانفتاح على الفكر الحر وتفهم الثوابت في ديانته، والا يحاول ان يقدم دينه بصورة اعتذارية تفسيرية تبريرية. فإن اصر الاسلام على المساواة بين المرأة والرجل مثلا ثم اتى بصور يبدو فيها عدم المساواة، فعلى المفكر المسلم ان يفهم بعمق علاقة الحكمين وان يدرك أن الله لا يقرر أمراً يناقض آخر، بل إن وحدانية الله وصدق اخباره عصمت القرآن من التناقض لقوله تعالى: "ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا". كذلك يجب على المفكر المسلم ان يدرك ان تحريم اشياء مأكولة او تقرير تكليفات كالصيام والصلاة وغيرها هي اوامر تكليفية يجب احترامها مهما ترتب عليها من مشقة او ضرر ومهما جلبت من نفع، فالصيام فرض حتى لو احدث المشقة، وأكل الخنزير محرم نصاً وكفى... ولا داعي لتقديم شروح لإيضاح مراد الله في ما كلف وأمر. رابعاً: ان التقابل بين الإسلام كدين والغرب ككيان حضاري واجتماعي لا يجوز. والحوار لا يكون إلا بين متشابهات او متماثلات، مثلما لا يجوز القياس او المقارنة بين وحدات من اجناس مختلفة كالحيوان والنبات ونحوهما. ويجب ان يفهم المعنى على أن الغربيين والمسلمين يرغبون في العيش المتناغم بعيدا عن العقد ذات الطابع الديني والموروث التاريخي. فليس صحيحا - كما صور بعض الغربيين - ان الاسلام دين ارهاب وإلا انتفت عنه صفة الدين. كما ان الاسلام دين والمسلم لا يتطابق مع الدين، فالمرذول هو سلوك بعض المسلمين وما هو مرذول في سلوكهم هو في الحق انحراف عن صحيح الدين لا يقره المسلم الحق، ولا يصح ان يحسب سلوك المنحرف على الدين الذي ينتسب اليه. ولاحظت ان عدداً من المفكرين المسلمين المرموقين ممن يدعون الى الندوات والمناظرات في اطار "الاسلام والغرب" يحاولون تقديم الاسلام على اكمل وجه بطريقة تعسفية، وبشكل يقنع الغرب بأنه الدين الجامع. ولكن طريقتهم تتسم بالكثير من حسن النية، فإن قال الغرب بحقوق للإنسان هب هؤلاء لتأكيد ان الاسلام هو الآخر يعرف حقوق الانسان، ويتبع ذلك سيل من الكتب والدراسات تحمل عنوان حقوق الانسان في الاسلام. وهذا المنهج بالغ التهافت لأن الغرب الذي يتحدث عن حقوق الانسان يعبر عن حقيقة مؤلمة وهي ان الانسان المقصود هو الانسان الغربي وحده الذي عانى من صنوف الاجحاف خلال تطور اوروبا وحروبها الطويلة، ما جعل لحركة حقوق الانسان وحرياته الاساسية منطقاً ومبرراً. اما الاسلام فهو نظام متكامل تنتظم فيه الحقوق والواجبات على ابدع ما يكون الضبط والإحكام، فلا حاجة إذن الى انتزاع طائفة الحقوق تمثلا بالغرب لندل على أن لدينا ايضا ما يتغنى به، وهو يعلم ان الانسان غير الاوروبي ليس اهلاً للحقوق وإن كان مطالباً بكل انواع الواجبات والمطالبات. ويبدو لنا ان العالم الاسلامي وحكوماته ومنظماته المشغول الآن بالإعداد للمؤتمر الدولي الكبير في نيسان ابريل المقبل يجب ان يدرك ان مثل هذه المؤتمرات يمكن ان تكون مناسبة ثمينة لتبادل الرأي بين مفكري العالم الاسلامي والغرب وادراك الرؤى المختلفة من منظور علمي، مع الحاجة الى تجنب المهارات الدينية والنعرات العصبية. ولعلنا نذكر ان الفكر الاستشراقي الذي استهدف بعضه تحدي المقولات الدينية في العقيدة والمعاملات، اسهم الى أبعد حد في انتاج فكر اسلامي مستنير غايته فهم اعمق للدين وأحكامه في سياق الرد على "خصوم الاسلام وأباطيلهم" فإن جاء الرد موضوعيا أفاد الفكر الاسلامي وأنار لمن ضلّ عن جهل طريق الصواب، وافحم من كان في قلبه مرض. وإني لأذكر ان أحد اساتذة العلوم السياسية اليهود في اسرائيل عرض لقضية بالغة الدقة في بساطة متناهية تغري بالقبول وكتب دراسته فيها باللغة الانكليزية ونشرها في دورية واسعة الانتشار واصبحت المصدر الوحيد في بابها. وتتلخص مقولته في ان الرسول صلى الله عليه وسلم نكّل بيهود المدينةالمنورة فنفى بعضهم وحرق بعضهم، ثم تساءل في براءة إذا كان الرسول رئيساً لدولة المدينة، واليهود جزء من رعاياه وشعبها، فهل يجوز لرئيس الدولة ان يعاقب معارضيه من رعيته بالنفي والابعاد والتحريق وسبي النساء ومصادرة الاموال؟ وواضح ان السؤال يشي بالاجابة بمنطق العصر الحاضر في اوروبا وتطور علاقة الحاكم بالمحكوم. ثم قدم احد الباحثين الباكستانيين دراسة ترجمت في مصر العام 1996 تحت عنوان "محمد واليهود" تقول ببساطة إن ما نسب الى الرسول صلى الله عليه وسلم من سوء معاملة بعض يهود المدينة لم يرد في مرثيات اليهود وتاريخهم، ولو وقع لهم شيء من ذلك أو أقله لخلّد من شملتهم هذه المحنة، مع ان كتّاب السيرة أفاضوا في تفاصيل ما حل ببعض قبائل اليهود في المدينةالمنورة. مثل هذه المقولات وغيرها مما يدخل في صميم الفكر لجدير بأن يلقى من مفكري المسلمين العناية والبحث. واضيف الى ذلك ان باحثاً يهوديا نال درجة الدكتوراة من كاليفورنيا العام 1986 عن اطروحة حول ظاهرة المؤتمرات الاسلامية، وتعمد ان يشوه فيها كل ما هو مقدس في تاريخ هذه المؤتمرات وحرص على إبراز الجانب التوثيقي لما يزعم. فهلاَّ عنيت الجامعات والمؤسسات والمفكرون المسلمون بدرس هذه القضايا الخطيرة دراسة علمية موثقة رصينة تكون مرجعاً مقابلاً لمراجعهم؟ اظن بأن مثل هذا العمل هو الاسهام الجدي في كسب احترام الآخرين لفكرنا وبداية لنهضة فكرية حقيقية مع إطلالة الالفية الثالثة لعلها تشهد عالماً اسلاميا متجدداً وقد نفض عنه غبار الاستكانة الى ان مفكري الغرب يفكرون له في أدق قضاياه! * عضو في المجلس الاعلى المصري للشؤون الاسلامية