هل نطمئن إذ نعرف أم نزداد قلقاً؟ أفي المعرفة أمل أم يأس؟ هل هي طريق خلاص أم طريق هلاك؟ ولكن أولاً، هل نمتلك يقيناً أم شكاً؟ حقيقة أم ظناً؟ وسواء كان هذا أو ذاك، هل يقود الى الخلاص؟ انما... أي خلاص؟! كلما ازددنا معرفة ازددنا شكاً، فكل معرفة شك. ومن يعرف أكثر يقلق أكثر، وييأس أكثر، ويهلك أكثر. كل معرفة جديدة شك جديد ويأس جديد. حتى لكأن التفاؤل ليس سوى الجهل. حتى لكأن الجهل هو الخلاص! المعرفة، بعكس ما يعتقد المتفائلون، ليست ضوء النفق. شعاع، ما أن يكشف عتمة حتى تتبدى عتمات، تتبدى مجاهل. والذين يدخلون نفق معرفتهم لا يكون أمامهم سوى اجتياز العتمات... والموت أخيراً في عتمة. اما الجاهل فلا يدخل الانفاق، ولا يحتاج الى ضوء، ولا الى اجتياز عتمة. يبرئه جهله، فيموت على مدخل النفق، ولكن في الضوء. هل المعرفة عتمة إذن والجهل ضوء؟ لا يقين بل شك في ذلك أيضاً. انما المعرفة تبحث عن ضوء لعتمتها، أما الجهل فيظن نفسه مضاء. وكلما استدعت المعرفة ضوءاً استدعت عتمة. استدعت ضياعاً وجهلاً. أيكون بذلك الجهل والمعرفة صنوين؟ الجهل سباحة في اللامعرفة والمعرفة سباحة في الجهل؟ مثل كل شيء إذن؟ النقيض شبيه النقيض والكل شبيه الكل؟ وفي النهاية، سواء عرفنا أو جهلنا، لا فارق ولا لزوم لكل هذا العناء؟ إن كان ذلك، هل نستمر في البحث عن المعرفة أم نركن الى الجهل؟ وهل بسبب عدم الركون، بسبب مغامرة المعرفة، دخل العالم في القلق واليأس؟ هل بسبب عدم الركون ينتحر المنتحرون، ويقتل القتلة، ويموت الذين لا يجرؤون على الانتحار أو القتل في الزاوية الصامتة من وحدتهم؟ وحدتهم التي بنوها يوماً بعد يوم، وجعلوا فيها زاوية لكلام يخص غيرهم، وزاوية لكلام يخصهم، وزاوية لوداع الكلام؟ وهل بسبب ذلك، للعارفين وحدة قاتلة مثل وحدة غير العارفين؟ وأي فارق بين وحدة هؤلاء ووحدة اولئك؟ ألا توصل، كلتاهما، الى المكان ذاته؟ الى فردانية العيش، وفردانية المشاعر، وفردانية المفاهيم، وفردانية الحزن، وفردانية الموت؟ أليست وحدة المعرفة، مثل وحدة الجهل، تجعل كل واحد في هذه الأرض الشاسعة والغاصة بالبشر فرداً وحيداً؟ وفيما يهلك عسكر الجهل في ثكنته بلا معركة، يذهب عسكر المعرفة الى المعركة كي يهلك بنار مشاعله؟ *** كل معرفة شك، كل جهل يقين. كل معرفة قلق، كل جهد اطمئنان. ما يلغي فروقهما، ما يوحدهما، هو الهلاك. غير أن العارف يهلك في قلقه. أما الجاهل فيهلك مطمئناً