ذهبت مذيعات وأتت مذيعات بالمئات وما زالت الناس تذكر غابي لطيف. هي تغيّرت كثيراً، سافرت، عاشت طويلاً في باريس، اختفت عن الشاشة الصغيرة سنوات طويلة، خلالها تفرقع الفضاء الى فضائيات ما عادت تحصى أو تعد، وفي كل فضائية نجمات - احداهن على سبيل المثال لا الحصر، يسبقها المزيّن والماكياجيست الى منزلها في السادسة صباحاً لأنها "لا تخرج بلا مكياج". وهذه، على سبيل ترديد ما تعرفونه، إن قابلت طبيباً أو شاعراً أو عالم فيزياء، تسألهم الأسئلة نفسها، وكثيراً ما تجيب عنهم لأنها لا تطيق غياباً ولو ثانية عن مرآى... المشاهدين. لدى سؤالنا عن رأيها في المشهد "الفضائي" الراهن قالت غابي لطيف: "قبل أن نطلق الأحكام على ظواهر المشهد ربما يتوجب علينا أن نعرف خلفياته وكواليسه وأسبابه، وفي المعرفة نور دائماً. هناك استعجال لاهث لدى الفضائيات للّحاق بالانتشار الإعلامي المستجد. يريدون ان يسبقوا بأي ثمن. ولذا فمن البديهي أن يعزفوا عن الاهتمام بالتأهيل والتدريب. الدارج والسائد يتحوّل هكذا الى "أسلوب" سرعان ما يعتاده الجمهور. وما يعتاده الجمهور مرغوب في مجال التسويق الإعلامي عندنا وعند غيرنا، الخطأ ليس في المذيعات، كثيرات بينهن موهوبات وعلى قدر كبير من الثقافة. لكن التيّار العام يجرف الجميع بقوة المنافسة". سؤال عادي، خفيف: كيف تصفين شعورك عندما يستوقفك الناس ويحدق بعضهم فيك ملياً قائلاً: ألست غابي لطيف؟ "عندما كنت حاضرة، كل ليلة، على الشاشة الصغيرة، كان السؤال يتلقفني وكأنني خارجة من عيادة طبيب الأسنان، مبنجة الفم، وإذا بشخص يقول لي كم ابتسامتك جميلة. كنت أضحك على رغم الإرهاق اليومي وعلى رغم تكرار "المصادفات" مع "المعجبين"... اليوم أفرح من دون بنج. لأنه من المفرح أن تبقى للمرء صورة في الذاكرة. أحياناً، مع الأسف، يأتيك من تنقصه الكياسة. لكن عموماً لا أشعر بضيق يذكر". - تعملين حالياً في اذاعة "مونتي كارلو"، لديك مقابلات وبرامج تستغرق أيام الأسبوع السبعة، تسافرين وتعودين الى باريس. وكل صيف تمضين عطلتك في لبنان، هل تفكرين في العودة الى حيث بدأت مسيرتك؟ "سؤال العودة هو الأصعب" تقول غابي لطيف "ولا أعتقد انني وحدي من يطرحه، كان ساذجاً جداً، تفكيرنا ان نهاية الاقتتال، أعني وقف المعارك، ستؤدي الى اعادة كل شيء الى مكانه الطبيعي، الآن نكتشف أن لا شيء طبيعياً عاد الى مكانه، فما تفعله الحرب في المجتمعات على اختلافها ليس من السهل أن نتوقعه، خصوصاً الحروب الأهلية. خلاصة القول إنني في حيرة من أمري. ساق في البور وساق في الفلاحة كما يقول المثل". لكننا رأينا غابي لطيف تنظر الى هذا البيت الجبلي وتلك الرابية وتسأل عن الأسعار، ثم ترسم على وجهها علامات الدهشة لأرقام أقرب من الخيال: "نعم، استطلع. أحب أن أعرف. وربما أقدمت على شراء شقة في الجبل، خصوصاً برمانا. لكن المتر المربع بألف دولار! وفي البلد أكثر من سبعمئة ألف شقة خالية، وتراهم مستمرين في البناء. ما زلت غير قادرة على فهم ما يجري، حقاً إدراكي قاصر عن استيعاب حجم اللاتوازن الفاضح الذي نعيشه. ترى ورشة الجسور والطرق الجديدة من جهة ومن جهة أخرى ما زالت الطرق القديمة مليئة بالحفر والأخاديد والمطبات. والعائد بعد غياب يضيع. اشارات الدلالة الى اتجاهات السير معدومة. يمكنك بكل سهولة أن تدخل عكس السير. حتى الاشارة الى طريق الأرز، تصوّر، غير موجودة!". هل يعني ذلك أنك تعودت الحياة على الطريقة الأوروبية، الى حدّ أن الفوضى اللبنانية الشهيرة باتت تضايقك وتثير نفورك؟ "بعض الفوضى، بعض التلقائية، بعض العفوية، ماشي الحال. لكن التسيّب العام في كل شيء يفقدني القدرة على التركيز. كثيرون جداً لا يصلون الى مواعيدهم كل يوم بسبب ازدحام السير الخانق، آخرون يفضلون التأجيل على التعجيل مما يساهم في شلّ حركة النمو. لست أدري. لكن حتى الآن أستطيع القول أن البلد مناسب لعطلة قصيرة لا أكثر". - لنفترض انك قررت العودة، ما الصيغة التي تفضلين العمل من خلالها، في النهاية هذا بلدك وهو بحاجة الى كل المواهب والخبرات... وأعتقد أنك سمعت مثل هذا الكلام غير مرّة منذ مجيئك. "أوه، سمعت أكثر، الناس تطرح كل أنواع الأسئلة، شخصية - خاصة أو عملية - مهنية، من دون حواجز أو حدود. كأن لهم عليك حقاً مكتسباً. يريدون أن يعرفوا متى سأتزوج، ولماذا لم أتزوج حتى الآن، وكم أكسب من عملي في الشهر ولماذا لا أقتصد. ولون شعري وملابسي. يقتحمونك علناً بلا شورى ولا دستور. وهذه صدمة حقيقية لمن اعتاد العيش في مجتمع يحفظ الحدود، ويراعي الخصوصية الشخصية لأفراده. حاصله. في الوقت الراهن أنا سعيدة بعملي في مونتي كارلو. تعودته. وإذا كان من صيغة لاستقراري في لبنان من جديد لا بدّ أن تشمل ما يضمن استمراري فيه بصورة أو بأخرى. وأعتقد، بتواضع وواقعية، أن تجربتي في الحقل الإعلامي ستكون مفيدة للبلد إذا ما وجدت الرغبة الصادقة لاستغلالها على صعيدي الإدارة والتأهيل". وتحدثنا بعدئذ عن شعوب أخرى كيف لملمت شمل موهوبيها المشتتين بعد الحروب...