المواجهة الجديدة - القديمة بين العراق ومجلس الأمن الدولي هي بين طرفين لا يستطيع احدهما أن يدعي البراءة التامة. العراق حاول منذ اليوم الأول الالتفاف على القرارات الدولية، ومجلس الأمن، أو الولاياتالمتحدة على وجه التحديد، حاول منذ اليوم الأول ان يجعل العقوبات دائمة. والمواجهة الحالية لا تختلف عن أزمة الصيف الماضي، أو أزمة نهاية السنة الماضية، وكل أزمة قادمة، فالمطلوب من العراق ان ينفذ القرارات الدولية، والمطلوب من مجلس الأمن ان يتعامل بصدق، حتى لا نقول انسانية، مع الوضع العراقي، ولا يجعل العقوبات دائمة خدمة لاسرائيل. نعرف الآن ان مجلس الأمن الدولي مدد يوم الجمعة الماضي العقوبات على العراق الى أجل غير مسمى، ورد العراق في اليوم التالي بتعليق التعاون مع اللجنة الخاصة المكلفة التفتيش عن أسلحة الدمار الشامل في العراق. ونعرف كذلك ان الرئيس كلينتون بحث في الوضع العراقي مع مجلس الأمن القومي، وأن وزير الدفاع وليام كوهن، ورئيس الأركان المشتركة هيو شيلتون ألغيا جولة آسيوية للبقاء الى جانب الرئيس في واشنطن، فيما أعلنت الولاياتالمتحدة انها تفكر في توجيه ضربة عسكرية من جانب واحد أي من دون الاستعانة بالحلفاء ضد العراق. هذا هو السيناريو نفسه الذي بدأ في أواخر السنة الماضية، وانتهى في شباط فبراير الماضي بتوقيع نائب رئيس الوزراء العراقي طارق عزيز والأمين العام للأمم المتحدة كوفي أنان مذكرة تفاهم يتهم مجلس الأمن الآن العراق بانتهاكها. الواقع اننا نقول مجلس الأمن، ونقصد الولاياتالمتحدة، فحماستها ضد العراق لا يفسرها سوى لعبها دور مخلب قط للمصالح الاسرائيلية في المنطقة. وفي حين ان النظام العراقي مذنب، فالادارة الأميركية مذنبة مثله أو أكثر، وهي تعمل بوحي المصالح الاسرائيلية وبايحاء أنصار اسرائيل في الولاياتالمتحدة. وكنت عشية المواجهة الأخيرة قرأت مقالاً للكاتب الليكودي النفس وليام سافاير في "نيويورك تايمز" كان عنوانه الرئيسي "التعامل مع الديكتاتورات"، وعنوانه الفرعي "طريقة تركيا وطريقتنا"، وفهمت من دون قراءة فحوى المقال، ثم أكدت القراءة ظني، فالكاتب يطلب من الادارة الأميركية ان تتخذ موقفاً من العراق، كموقف تركيا ازاء سورية، وهو يدعو الى خطوات محددة لدعم التوجه الانفصالي الكردي في شمال العراق. غير أن الادارة الأميركية لا تفعل شيئاً من هذا بل تفعل أسوأ منه بتجويع الشعب العراقي من ناحية، وبالزعم من ناحية أخرى انها تريد اسقاط النظام في بغداد. كيف تتعامل الولاياتالمتحدة مع الوضع العراقي خارج الاصرار على العقوبات؟ الكونغرس خصص 97 مليون دولار على شكل مساعدات عسكرية للمعارضة العراقية لإسقاط النظام في بغداد. وأترك الكلام للجنرال في المارينز انطوني زيني، قائد القيادة المركزية الأميركية، فهو هاجم هذا القرار وقال انه لا توجد معارضة فعالة ضد صدام حسين، وحذر من خطر زعزعة استقرار المنطقة كلها. لا نقول ان هذا ما تريد الادارة الأميركية للعراق والمنطقة، غير أننا نحكم على الأمور بنتائجها، والنتائج هي استمرار العقوبات بشكل غير انساني، من دون أي خطوات عملية فعّالة لإطاحة النظام، أو إعادته الى حظيرة الأمم. في اليوم الذي كان سافاير يحرّض الادارة الأميركية على ممارسة سياسة تركية، على اعتبار ان عسكر تركيا منتهى الديموقراطية، كانت جريدة "واشنطن بوست" تنشر تحقيقاً طويلاً يظهر أن العقوبات الاقتصادية أوقعت كارثة بشرية بشعب العراق، وقرأنا ان 22.8 في المئة من الأطفال يعانون من سوء تغذية ونقص في الوزن، وان 26.7 في المئة منهم لا تطول قاماتهم بشكل طبيعي نتيجة لنقص التغذية، وأن من هؤلاء يعاني 9.1 في المئة من نقص حاد في الطول، في الوقت نفسه هبط المتوافر من الماء للمواطنين من 65 غالوناً للفرد في اليوم سنة 1989 إلى 33 غالوناً السنة الماضية، مع ارتفاع نسبة التلوث في الفترة نفسها من خمسة في المئة الى 35 في المئة. كذلك زادت الاصابات بالتيفوئيد من ألفين سنة 1991 إلى 27 ألفاً السنة الماضية. هل هذا وضع انساني مقبول؟ الولاياتالمتحدة تقبل به، وتصرّ عليه، بل تضغط على مجلس الأمن لإبقاء العقوبات الى أجل غير مسمى، من دون أن تقوم بخطوة فعالة واحدة ضد النظام العراقي، غير تخصيص الكونغرس 97 مليون دولار لإطاحته. هذا الوضع لا يمكن أن يستمر، والدول العربية لا تقبل به، لذلك رأينا دولاً مثل سورية، ونظامها عدو تاريخي للنظام في العراق، والمملكة العربية السعودية التي قادت التحالف الاقليمي لتحرير الكويت، والامارات العربية المتحدة ومصر والكويت نفسها، تقدم مساعدات انسانية للعراق، كما رأينا بعضها يفتح أبواب التجارة مع العراق لا دعماً لنظامه، بل مساعدة لشعبه. ومضى يوم كان شعب العراق في موقع ان يساعد كل شعب عربي آخر، إلا أنه ابتلي بنظام أنزله درك المهانة والمجاعة والمرض، وهو بذلك يتحمل مسؤولية اخطائه، إلا أن الولاياتالمتحدة لا تستطيع ان تدّعي البراءة، فمواقفها، حتى لو قبلنا جدلاً انها غير مقصودة، تدعم النظام العراقي ضد شعبه.