انتقل الرئيس الياس الهراوي، بعدما سلّم الرئيس الجديد العماد اميل لحود مقاليد الرئاسة، الى منزله في منطقة اليرزة الواقعة على منحدر تلة تقف على كتف القصر الجمهوري في بعبدا، ليراقب من هناك الجمهورية من بعده، هو المشغوف بالتفاصيل والمتمتع بذاكرة تسجيلية، عن تأسيس الجمهورية الثانية الذي طبع عهده، بكل تفاعلاته الصاخبة بالاحداث الكبرى المحلية وامتداداته الاقليمية. واذ يحتفظ الهراوي باسرار لا تحصى عن مراحل حكمه في خزنة، ويُفترض ان يكون اطلع الرئيس الجديد عليها، خلال اجتماعات العمل التي عقدت بينهما في الأسابيع الماضية، فان حرصه على اختصار دوره خلال ولايته الممددة التي استمرت تسع سنوات، بانه تسلّم اشلاء دولة وسلّم دولة، يعتبره المقربون منه رداً على الحملة التي ترافقت مع استقبال العهد الجديد، والتي تحدثت عن الفساد في العهد المنتهي ووجوب محاربته، وعن الاخطاء والمحاصصة... الخ. وهي حملة كما يقول العارفون دفعت بالرئيس الهراوي خلال القمة الاخيرة الوداعية، بينه وبين الرئيس السوري حافظ الاسد، الى إثارة ما يتعرّض له، في شكل دفع بالرئيس السوري الى تأكيد صون كرامته ورفض كل ما من شأنه ان يسيء اليه. وتتابعت مجموعة من المواقف بعدها، بدءاً من وزير شؤون المهجرين وليد جنبلاط، ثم رئيس الحكومة رفيق الحريري وغيرهما، ان العهد الحالي سيستكمل انجازات العهد المنقضي وانه لا يأتي من فراغ. وتخللت هذه التصريحات اشارات من مسؤولين سوريين كبار الى ان الحملة على الهراوي وبعض الرموز المسيحية مصدرها انهم مسيحيون حلفاء لسورية. لكن الأبرز كان ما تضمنته برقيتا الاسد للهراوي، الاولى رداً على تهنئته له بالذكرى التصحيحية والثانية في ذكرى الاستقلال اللبناني، والتي حرص فيها على الاشارة الى كل من الهراوي ولحود بعبارتي خير خلف لخير سلف وبالتأكيد للاول ان "حبل المودة لا ينقطع" و"بالاعتزاز لان معاهدة التعاون والاخوة والتنسيق تحمل توقيعكم" وللانجازات الكثيرة غي عهده. ورد الهراوي نفسه في خطاب الوداع بانه يغادر "مرتاح الضمير"، فيما تجنّب الرئيس لحود الاشارة الى إنجازات العهد السابق في خطاب القسم. وهو الامر الذي اعتبره البعض طبيعياً لان من حق أي عهد، عند بدايته، ان ينطلق من رؤياه الخاصة ومن المعادلة التي حكمت مجيئه فيضع حداً فاصلاً بينه وبين سلفه، فكيف اذا كان عهد الهراوي انتهى بشكوى من الكثير من الامور؟ هل يتوقع ان يؤدي الهراوي دوراً سياسياً في المرحلة المقبلة"؟ وهل للشكوى على عهده انعكاسات على مجريات الامور سلباً أم ايجاباً خصوصاً ان هناك تقديرات بانها قد تشهد فتح بعض الملفات؟ سواء أدى الرئيس السابق دوراً مستقبلياً أم لا، فان المتعاطفين مع الهراوي والمقربين منه يتحدثون عن الوفاء السوري له، وعن العلاقة الشخصية بينه وبين الرئيس الاسد. وواقع الامر ان الأخير يتعاطى بكثير من الحميمية مع الهراوي يفرضها أسلوبه المرح، وعفويته المحبوبة التي تكسر حاجز البروتوكول في معظم الاحيان وتخترق جدار العلاقة الرسمية مع الاسد، مقترنة بذكاء سياسي حاد في قراءة الظروف، ما ترك أثراً طيباً يصعب تخطيه في نفس الاسد الذي يعتبره "مهضوماً" كما يقول العارفون. وكان الاسد يتقبل من الهراوي عبارات، قلما يسمعها الاول من الذين يلتقيهم فيضحك أو يبتسم، ما أدى الى رفع الكلفة بينهما. وكان ايضاً يتقبل منه بعض الطروحات السياسية التي لا تنسجم مع توجهات دمشق ويبلغ اليه بلباقة معارضته اياها فيلتقط الرئيس اللبناني السابق الموقف في سرعة بدوره، ما جعل العلاقة مبنية على فهم متبادل كان الهراوي فيه الفريق الذي يدرك حدود التحرّك الذي تتيحه له الظروف. واذا كانت هذه الصفات عنده وخصوصية العلاقة الشخصية أتاحت تجديد الحديث عن إنجازات العهد، في مقابل الكلام على اخطائه، فان الاجابة عما اذا كانت تتيح له دوراً سياسياً في المرحلة المقبلة سيبقى خاضعاً لظروف كثيرة منها ما ستؤول اليه الامور مع العهد الجديد. وفي وقت يتوقع قطب سياسي رافق الهراوي ان يلتزم صفة المرافق في الاشهر المقبلة، فان الكثيرين ممن يرصدون إمكانات هذا الدور يعتقدون انه يحتاج الى أرضية سياسية جديدة تبدأ بمصالحته مع طائفته التي قاومت الغالبية فيها نظرته الى الحكم وقيام الدولة وموقع المسيحيين فيها والعلاقة مع سورية. فهل تتيح له التطورات مصالحة كهذه؟ والهراوي كان يدرك من جهته، على رغم تصرّفه على ان علاقته مع دمشق وثقة الاسد به تعطيه دفعاً وقوة، هما اللذان حتماً التمديد له ثلاث سنوات في العام 95، ان الكسب السياسي الذي يمكن ان يحققه خاضع لعوامل اخرى غير تلك القرارات التي هناك شبه اجماع على وصفها بالشجاعة والاقدام والجرأة والوطنية... وكان الهراوي يعبر عن قلقه على موقعه المستقبلي على طريقته. وغالباً ما حدث، بعد خلاف بينه وبين شريكيه وما أكثر الخلافات التي حصلت الرئيسين نبيه بري ورفيق الحريري، ان ردّ على وصف أي منهما له بانه رئيس تاريخي اتّخذ قرارات تاريخية سيذكرها التاريخ، بالقول متأففاً: "خذوا التاريخ وأعطوني الجغرافيا". ويتردد انه قالها مرة لكلاهما معاً، في معرض التأكيد انه لن يخدع بمدح مواقفه في مقابل ما يأمله من دور في السلطة لمصلحة الرئاسة وطائفته..