يوم الثلثاء المقبل 24 الجاري يقسم العماد أميل لحود اليمين الدستورية كثالث رئيس لجمهورية لبنان الثانية. أي جمهورية الطائف التي ولدت من رحم حرب أهلية مع دستور جديد تجاوز في نصوصه دستور 1926 وميثاق 1943. ومع ان العماد لحود هو العسكري الثاني بعد اللواء فؤاد شهاب الذي ينتقل من وزارة الدفاع الى القصر الجمهوري، إلا أن انتخابه بالاجماع يعبّر عن الرغبة في التغيير بعد عهد استمر تسع سنوات هو الأطول منذ التجديد للرئيس بشاره الخوري 1949. وعلى الرغم من الانجازات الوطنية التي حققها عهد الهراوي بدعم من سورية، إلا أن خلافات "الترويكا" أربكت التوازنات الداخلية، وسمحت بتشابك السلطات على نحو جعل من رئيس الحكومة رفيق الحريري القوة المركزية المهيمنة على الحياة السياسية والاقتصادية. وكان من الطبيعي ان تنعكس أزمات الرؤساء الثلاثة سلباً على الوضع الاقتصادي الذي سيطر عليه نظام المحاصصة، الأمر الذي سهل انتشار الفساد في إدارات الدولة بسبب تجاهل المسؤولين تطبيق القوانين. ولم تكن ولادة مشروع قانون الاثراء غير المشروع سوى محاولة تحول من قبل النخبة الحاكمة، وذلك بهدف امتصاص النقمة ووضع معايير سلوكية تتلاءم وشعارات العهد الجديد. علماً بأن المشروع صيغ بطريقة يستحيل تطبيقها، ويُستعصى تنفيذها بسبب العوائق القانونية والسرية المصرفية. يتفق المراقبون الديبلوماسيون على تفسير ظاهرة الاجماع البرلماني على انتخاب العماد لحود بأنها نتيجة منطقية للاجماع الشعبي الذي عبّر عن تأييده بواسطة مئات اليافطات المعلقة فوق شوارع بيروت والمدن الأخرى. ويستنتج من مراجعة نصوصها الهادفة ان غالبية اللبنانيين تطالب الرئيس الجديد بضرورة تفعيل مؤسسات الدولة على نحو شبيه بمؤسسة الجيش. من هنا يقال ان الترحيب الاستثنائي الذي لقيه قائد الجيش من قبل مختلف الفئات، لم يكن بدافع الاعجاب والتقدير لشخصه ودوره فقط... بقدر ما كان بدافع الانتقاد والمعارضة للوضع السياسي المهترئ المحكوم بخلافات "الترويكا". وهذا ما قاله اللواء الركن غازي كنعان، قائد جهاز الأمن في القوات السورية العاملة في لبنان، لبعض زواره النواب بينهم قبلان عيسى الخوري وجبران طوق، بأن الأخطاء الناتجة عن الأداء السياسي السلبي هي التي عززت خيار الدعم لرئيس عسكري، خصوصاً وان مؤيدي العماد لم يستندوا في انتقائه الى النجاح الذي حققه داخل المؤسسة العسكرية فقط... بل الى سلوكه الشخصي وممارساته اليومية لشعارات جعلها عنواناً لجيش ينفذ أوامر السلطة السياسية لا أوامر زعماء الأحزاب والطوائف والميليشيات. وهو يفخر دائماً بأنه سيمنع الجيش من التدخل في السياسة... كما منع السياسيين من التدخل في شؤون الجيش. وعلى قاعدة المثل الصيني القائل بأن "شطف" الدرج يبدأ من فوق الى تحت وليس العكس، يبني الرئيس المنتخب قاعدة حكمه بوعد "ان اصلاح الأمور يبدأ من الرأس". وعليه يؤكد أنه "سيكون المثل والمثال في كل ما يقتضيه الواجب ويفرضه القانون وتحتمه المسؤولية". لذلك دعا في رسالته الأولى الى الموظفين بأن يحذو حذوه كل من يتولى شأناً عاماً. السؤال الذي يطرحه اللبنانيون بإلحاح يتعلق ببرنامج الرئيس المنتخب، وما إذا كانت سمعته المعنوية ونزاهته الشخصية كافيتين لإنجاح مهمته السياسية بالقدر الذي نجحت فيه مهمته العسكرية؟ الجواب على السؤال أثاره رئيس الحكومة رفيق الحريري يوم طالب عبر حديث تلفزيوني بضرورة اعلان المرشحين للرئاسة عن برامجهم. ولقد تجاوب فوراً مع دعوته النائب بطرس حرب الذي قدم في مؤتمر صحافي الخطوط العريضة لبرنامجه السياسي - الاقتصادي. وتردد الكثيرون في اعلان برامجهم لأن التعديلات الدستورية الجديدة أناطت السلطة الاجرائية بمجلس الوزراء الذي مُنح الحق الحصري بوضع السياسة العامة للدولة في جميع المجالات. أما مهمة رئيس الجمهورية من هذه التعديلات فقد حُددت "بالسهر على احترام الدستور والمحافظة على استقلال لبنان ووحدته وسلامة أراضيه". هذا طبعاً اضافة الى أوصاف معنوية مثل "رئيس الدولة ورمز وحدة الوطن، والقائد الأعلى للقوات المسلحة التي لا تخضع لسلطته بل لسلطة مجلس الوزراء". ومن هذه الثغرة الدستورية أطل بعض الزعماء لينتقد فكرة اختيار وزارة من التكنوقراط يصعب على أعضائها وضع برنامج سياسي للمرحلة المقبلة. وسبب ذلك ان البيان الوزاري سيكون خالياً من أي تصور سياسي على اعتبار ان أصحاب الاختصاص لا يملكون هذه المؤهلات. ويبدو ان الرئيس المنتخب ميّال الى تطبيق صيغة فصل السلطات، لقناعته بأن النائب المشرّع لا يجوز أن يملك السلطة التنفيذية أيضاً. وربما يكون هذا الفصل مجدياً في بلدان أخرى حيث يمارس الوزراء مسؤولياتهم بهدي من برنامج الحزب الحاكم. وانما في غياب الأحزاب السياسية اللبنانية يبقى مجلس الوزراء هو الهيئة المعنية دستورياً بوضع برنامج سياسي يحق لمجلس النواب مراقبته ومحاسبته. عندما قدم العماد اميل لحود نفسه بالقول انه سيكون المثل والمثال، انما أراد بهذا الوصف الغاء التناقض بين أفكاره وسلوكه. أي بين ما يدعو إليه علناً وما يعمله سراً. وبما أن مهمته "كرئيس للدولة وكرمز لوحدة الوطن وكساهر على احترام الدستور وكمحافظ على استقلال لبنان"... تستدعي الالمام بمقومات هذه الشعارات، فإن برنامجه السياسي غير المعلن يبقى الشاهد الأول على ضلوعه في دور الحكم الموضوعي. والدليل انه أرسى دعائم المؤسسة العسكرية الناجحة على كل ما يجمع داخل الرابطة الوطنية. وفي تصوره لدور الجيش يقول: "لا خلاص للبنان من دون جيش قوي وطني بعيداً عن كل اعتبار طائفي أو مناطقي". ذلك ان الجيش القوي في نظره: "يعزز موقف المفاوض اللبناني في المطالبة باستعادة الحقوق المشروعة من دون ثمن أو مقابل". والسلام العادل إذا تحقق يبقى في رأيه، بحاجة الى قوة تحميه وتحافظ عليه. وفي رسالته الى اللبنانيين لمناسبة انتخابه 15 تشرين الأول/ اكتوبر خصّ المقاومة بتحية اكبار وثناء استهلها بالقول: "في هذا اليوم أحيي صمود أبنائنا في الجنوب والبقاع الغربي المؤازرين لجيشهم في مقاومة الاحتلال الاسرائيلي، وأنحني أمام أرواح الشهداء الذين سقطوا دفاعاً عن الحق والكرامة لأنهم يمثلون ضمير الوطن ووجدانه". وكان من الطبيعي أن تلقى هذه الكلمات الصدى المستحب لدى الأمين العام ل "حزب الله" حسن نصرالله وزعيم حركة "أمل" نبيه بري الذي اعترف لمجلة "الأفكار" بأنه كان أول من نصح الرئيس أمين الجميل بضرورة اختيار اميل لحود لقيادة الجيش بدلاً من ميشال عون. والى جانب تميزه عن رفاق السلاح، يستند رئيس المجلس في حكمه، الى خلفية سياسية عرف بها والده العماد جميل لحود. والمعروف عن جميل لحود انه انضم عام 1941 الى حركة العصيان التي ضمت 41 ضابطاً وقعوا تعهداً برفض أوامر الانتداب الفرنسي والانصياع لأوامر الحكومة اللبنانية فقط. وبعد فوزه في الانتخابات النيابية عين وزيراً للعمل سنة 1966. ولقد جمعته دائماً صداقة خاصة مع كمال جنبلاط الذي طرح اسمه مرة لمنصب رئيس الجمهورية. عقب انتخاب الرئيس لحود ازداد حجم الحملات السياسية والإعلامية المستهدفة رئيس الحكومة رفيق الحريري، على اعتبار أن نجمه لن يكون الأكثر تألقاً في العهد الجديد. خصوصاً ان مرشحه المفضل رياض سلامة الذي أسرّ باسمه أمام الرئيس الأسد لم يلق القبول والموافقة. واختار نبيه بري البند الثاني من المادة 53 من الدستور ليشكك في احتمالات تكليف الحريري لأسباب عزاها الى إرادة رئيس الجمهورية وما قد يرسو عليه تشاوره مع رئيس المجلس. وتلقف النواب والمحامون تفسير بري ليجتهدوا في استخلاص مضامينه التي توجب بعد تشاور رئيس الجمهورية ورئيس المجلس اختيار المرشح الأنسب بمعزل عن نتائج الاستشارات النيابية وعن عدد الأصوات المسجلة لصالح أي من المرشحين. وبعد مناقشات حامية على صفحات الجرائد، حسم الأمر بطريقة تلغي الشكوك حول تفسير عبارة استشارات ملزمة "بالتسمية". وقبل أن يتوقف تراشق نبيه بري نعى الدكتور سليم الحص العهد الحالي واصفاً نهايته بأنها "على أسوأ ما يكون الحال". وفي ندوة أقامها "مركز الفاروق الاسلامي" أطلق الحص النار على "الترويكا"، معتبراً أنها مسخت الحكم الى صيغة محاصصة وتقاسم نفوذ بدءاً بالادارة والتعيينات... وصولاً الى تراخيص الاعلام. وعن الرئيس المنتخب اميل لحود قال الدكتور الحص انه الشخص القادر على تحقيق تغيير حقيقي. ولكنه طالب الناس بعدم المغالاة في التوقعات "لأن كل من يطلب اجتراح المعجزات من الرئيس... يظلمه". ويبدو أن الدكتور الحص استند الى رسالة الرئيس لحود أثناء الحديث عن تحفظاته تجاه التوقعات والآمال الكبيرة. ولقد تنبه الرئيس المنتخب الى المحاذير التي تنتظر ولايته في حال شُكلت حكومته الأولى على مستوى أدنى من طموحات الغالبية المطالبة بالتغيير الجذري. وهو يعرف ان هذا التغيير لن يحدث إلا في أعقاب الانقلابات والبلاغات العسكرية. وبما أنه جاء بالانتخاب ليعمل من ضمن مؤسسات الدولة والنظام القائم... وبما انه انتخب ليكمل عهد الهراوي لا لينقضه، فإن التغيير الذي يتوقع حدوثه سيكون في الأداء فقط. لذلك حرص على مخاطبة الناس بلغة الواقعية عندما قال في رسالته الأولى: "انا أعرف مقدار الآمال التي تختزنها نفوسكم، وهي آمال عنوانها الرغبة في التغيير لبلوغ الأفضل سياسياً وادارياً واقتصادياً واجتماعياً. لدي القليل من الوعود والكثير من العمل والأمل". ومن الواضح ان التأييد الشعبي الذي عبر عنه جميع الأوساط من مختلف الطوائف والفئات ستخف حدته بعد مرور فترة الاختبار المقدرة بسنة واحدة. وبما ان رفيق الحريري سيشكل حكومته الرابعة في ظل عهد جديد، فقد يرضيه ألا تكون التشكيلة الوزارية من اختياره، خصوصاً وان معظم الاسماء المطروحة تدعو الى الاستهجان والاستغراب. ولقد جرب الحريري خلال حملة الانتقاد والتهجم ان يشرك معه في الدفاع الوزير وليد جنبلاط لعل تحالفهما يقلب ميزان القوى ويحميه من الاغتيال السياسي. ولما استنجد بدمشق للتدخل أوحت له ولجنبلاط بأن دور الوساطات والمعالجات السابقة قد انتهى، وان مرجعية الخلافات ستنقل من مكتب عبدالحليم خدام الى القصر الجمهوري. وواضح من هذا التحول ان سورية حريصة على إنجاح مهمة لحود بدليل انها جيرت له مسؤوليات تفوق تلك التي بين يدي الهراوي. قبل جلسة الانتخاب بيوم واحد زار الوزير جنبلاط نائب الرئيس السوري عبدالحليم خدام ليبلغه موقفه من الاستحقاق الرئاسي وقراره عدم المشاركة في التصويت بسبب اعتراضه المبدئي على مجيء عسكري للرئاسة. ومع انه امتدح ديموقراطية قائد الجيش، إلا انه قاطع مع نواب الحزب الاشتراكي جلسة الانتخاب. ولقد استبق جنبلاط هذا الموقف باعلان ترشيح نفسه للانتخاب متسائلاً: "لماذا لا يكون الرئيس درزياً أو أرمنياً أو بروتستانتياً أو علوياً. ولماذا وجب علي الانتخاب اذا لم يكن هناك تكافؤ في الفرص. ان وضعي السياسي والطائفي مهمش. والمؤسف ان أصوت لغيري وهو ليس أفضل مني". ومثل هذا التبرير الذي قدمه والده كمال جنبلاط في مناسبات انتخابية مختلفة، أعطى الحجة للرئيس الياس سركيس لأن يصف النظام اللبناني بأنه لا يتسع لكمال جنبلاط وغسان التويني. وكان يردد في مجالسه ان هذين الرجلين يشعران دائماً بالغبن لأن النظام السياسي اللبناني همشهما بسبب انتمائهما الطائفي لا بسبب كفاءاتهما المتميزة. ويبدو أن هذا الشعور المتوارث أملى على وليد جنبلاط قرار الاعتراض كموقف مبدئي لم يلبث أن تعرض هذا الاسبوع لانعطاف سياسي واضح. ذلك انه بعد رسالة التهنئة التي بعث بها للرئيس المنتخب أعرب عن استعداده للمشاركة في الحكومة وانما بشروطه. وغمز من قناة الرئيس لحود ومن الصفات التي أُغدقت عليه مثل "النظافة" و"النزاهة" متسائلاً: "يعني هو الآدمي الوحيد النزيه في البلد، وأنا والحريري والآخرون حرامية ومسؤولون عن الاهدار"؟ ثم عبّر عن اعتراضه لاستقبال وفد المشايخ من خصومه بالقول: "المشايخ العقلاء الحكماء يُزارون ولا يزورون". وكأنه بذلك يجردهم من فضائل الحكمة والتعقل لأنهم رفضوا دعم موقفه المعارض وأظهروا الطائفة بمظهر الانشطار والانشقاق. البطريرك الماروني نصرالله صفير طالب بمنح الرئيس الجديد فرصة لابراز نهجه واظهار التغيير الذي تحدث عنه. ورحب مجلس المطارنة باختياره على أمل ان ينجح في قيادة البلاد الى شاطئ الأمان، فيحقق ما انتظره الشعب اللبناني في ما يخص المصالحة الوطنية الشاملة، والقضاء على فساد الادارة وإعادة المهجرين الى قراهم، وحث المهاجرين على الرجوع. ويعتبر موقف مجلس المطارنة منذ اتفاق الطائف، أول خطوة انفتاح تخطوها الطائفة باتجاه الدولة. وتتوقع دمشق ان ينجح لحود في ردم الهوة التي باعدت بينها وبين بكركي، خصوصاً أن الظروف الاقليمية تتطلب تفعيل شريحة كبيرة من الشعب اللبناني ترفض الدخول في دورة الحياة السياسية - الاقتصادية بطريقة ذيلية مهمشة. ولقد انعكس رضا الطوائف المسيحية والاسلامية على الوضع الاقتصادي بطريقة ايجابية كانت المؤشر على أهمية تأثير الثقة السياسية على الوضع النقدي وأسعار شهادات الايداع اللبنانية في الخارج. المعارضون لعهد الياس الهراوي يتوقعون ان ينجح الرئيس لحود في تغيير عمل مؤسسات الدولة كما نجح العماد لحود في تفعيل مؤسسة الجيش. وهم يراهنون على الخروج من الأزمات الداخلية المتنامية شرط أن يحيط نفسه بمستشارين وخبراء منزهين عن كل غرض، كما فعل العسكريون المتفوقون في بلدان أخرى. وهذا يقتضي اجتراح رؤية وطنية واضحة قادرة على استقطاب الجميع بدون تمييز. وبما ان الوطن يعرّف بأنه "الأرض والشعب والقانون"، فإن الرئيس لحود قادر بواسطة امتلاكه سيف القانون ان يسترد الأرض ويوحد الشعب. خصوصاً أنه سيتسلم مقاليد الحكم في عيد الاستقلال. ومن هذه القاعدة الوطنية سيبحر الملازم البحري السابق بسفينته اللبنانية عبر انواء الشرق الأوسط على أمل أن يوصلها مع نهاية القرن الى الشاطئ الأمين! * كاتب وصحافي لبناني.