أفاض المعلقون على خطبة رئيس الجمهورية اللبناني الجديد الأولى، السيد اميل لحود - والسيد على مثال "الرئيس" دوايت ايزنهاور وليس الجنرال، وهو الجنرال المثلث النجوم، وعلى خلاف مثال "الجنرال" ديغول المقيم على رتبته العسكرية على رغم انتخابه رئيساً في استفتاء انتخابي عام - فوضعوا في الخطبة ما انتظروا واشتهوا وأرادوا. وهذا من شيمة النص، قولاً كان أو كتابة، ومن شيمة المكانة. فكلام صاحب المكانة مدعاة تأوُّل كثير حتى الاختلاط والهذيان. ولعل السبب في ذلك صدور كلام المكانة عن المكانة. والمكانة يلابسها شيء من السحر. وهذا، أي السحر، يفترض المعاني الكثيرة، والحملَ على الكثرة، والتوسل بالكثرة إلى "الفعل" السحري. وعليه اتصل السلطان، مهما كان متواضعاً قياساً على ما نختبره من الأمر، بالسحر والسحرة، واتصل السحر والسحرة بالسلطان. وإذ ارتفع السحر من دنيا البشر، وأخلى عالمهم، على ما زعم صاحب الاجتماعيات الألماني ماكس فيبر، ضعف السلطان، واقتصر على الصدور عن البشر وأهوائهم ورأيهم. وهذا "ضعيف"، على معنى نَقَلة الآثار ونقادها. والخطبة الرئاسية تنزل على فن الخطابة وآلات هذا الفن وقواعده، شأن غيرها من فنون القول. ويصح فيها، وفي تناولها، إحصاء ما تناولته من الموضوعات والمسائل والمطالب، ويصح فيها، في وجه آخر، إحصاء ما تركته وأغفلت تناوله. فالخطبة إنما تستعمل صُور الخطابة، عمداً أو سهواً، في سبيل الإقناع ولأجله. وسبيل الإقناع تحفه المخيلة وكناياتها وأهواء النفس وميولها، فوق ما تحفه العلل والحجج والبراهين. فالإقناع، في رأي بعينه، مع إغفال ما يُغفل أيسر منه مع ذكر المغفل والمهمل والمتروك. وقارىء الخطبة الرئاسية الأولى، وهي تليت على مجلس النواب وناخب رئيس الجمهورية بحسب دستور البلاد، لا يفوته، قياساً على الخطابة السياسية اللبنانية، الرئاسية والوزارية والنيابية جميعاً، خلو الخطبة من كلمة "حرية"، أو "حريات"، وخلوها من معناها. فالخطبة تصف النظام السياسي والدستوري اللبناني، في موضعين، ب"الديموقراطي البرلماني". وفي الموضعين تُحمل "الديموقراطية"، أو الصفة المشتقة من الإسم، على معنى واحد هو القانون، أي "دولته" و"مؤسساته" أو "مقاييسه" و"أصوله" و"مبادئه" و"أحكمه". وتفيد الكلمات هذه كلها معنى السواء، والنزول على مشترك واحد لا يتغير بتغير الأحوال والمكانات والأفراد. وكررت الخطبة هذا المعنى على وجوه كثيرة هي معظم الخطبة كماً ومعنى. ومثل هذا الإغفال جديد في الخطابة السياسية اللبنانية، على أنواعها. فاللبنانيون ما أن يعلوا منبراً، كان المنبر استعارة أو حقيقة، حتى ينبروا لمديح "الحرية"، ومديح امتيازهم بها واختصاصهم. ف"الحرية" على هذا تكاد تكون باباً من أبواب القول الشعري المحلي، أو "الزجل"، على ما نقول ساخرين من أنفسنا، ويقول بعضنا ساخراً من بعضنا الآخر. وتتصل "الحرية"، أي الباب من القول وموضوع القول، بباب آخر من القول هو "علة" لبنان ومسوغ "وجوده". وتذهب الخطابة اللبنانية، كل يوم، إلى إدخال الباب الأول في الثاني، أو الثاني في الأول. فتجمعهما في باب واحد، أو معنى واحد. وينتبه قارىء الخطبة الرئاسية إلى خلوها كذلك، على خلاف مثيلاتها وسابقاتها، من التساؤل عن "علة" للبنان، ومن الجواب عن السؤال الغائب والمتروك، استطراداً. فلا يخامر الخطيب ارتياب في المسألة. فهو يوقع كلامه على بلد عادي، ووطن مثل كل الأوطان، وأمة تشبه الأمم، ودولة تشكو بعض الهنات والنقائص والعِلل، على معنى الأمراض. وهذا ما يتطوع صاحب الخطبة لمعالجته بالإرادة والنية، على قوله. أما تشكك بعض اللبنانيين، وتشكيك بعض آخر، في "لزوم" لبنان "وضرورته"، أو في رسوخه، فلا يبدو، في مرآة الخطبة الأولى، أنهما التشكك والتشكيك يقضان مضجع الخطيب أو يقلقان نومه ويقظته. ولما كان صاحب الخطبة يُغفل تناول البابين، أو المسألتين، وهما قلما تغفلهما خطابة سياسية أو "أدبية" لبنانية، فهو يغفل طمأنتنا، نحن المواطنين و"المحكومين"، على ضمانة الحرية و"العلة" اللبنانيتين، على رغم قسمه على الدستور وحلفه على التمسك به واحترامه. وربما أراد الرئيس الجديد الاستدراك على أغفاله مسألة الحرية، في تالي يوم قسمه. فاستقبل وفد الاتحاد العالمي للصحف، وقال للوفد "ان الحاكم لا يحكم بعدالة إلا في ظل صحافة حرة"، وعلل الأمر: الصحافة الحرة "تضع الحاكم في صورة الأوضاع الحقيقية للشعب والبلاد وتسمح له بمعرفة معاناة الناس". والحق أن دور هذا الضرب من "الحرية" قريب من نقل "الوزير" أخبار الرعية الى سيده الخليفة. وهذا بعيد من دور الصحافة في الدول الديموقراطية. ففي هذا الضرب من الدول تتولى الصحافة الحرة الرأي في أداء الحاكم، ومناقشة سياسة الحكام، ودعوتهم الى سياسة أخرى. ويجدد الرئيس الجديد في باب آخر. فهو صرف خُمس خطبته، على وجه التقريب، إلى القول في باب متنازَع من أبواب الخطابة السياسية اللبنانية هو باب العلاقة بالدولة السورية وبسياستها اللبنانية. وهذا الباب لم تطرقه خطبة رئاسية أولى على هذا النحو، لا كماً ولا معنى ومضموناً أو محتوى. فالخطبة تقضي في ربع القرن اللبناني الأخير بقضاء قاطع. ويختصر القضاء الرئاسي المحنة اللبنانية بالمنازعة بين "مبادرات" سورية و"رهانات مضادة". وهذا غاية في الاختصار والإيجاز. بل إن الاختصار يبلغ شأواً يتبدد المعنى اللبناني، المستقل، مع بلوغه. فإذا اقتصرت سني العقد ونصف العقد من الاقتتال على الإختيار بين "المبادرات" وبين "الرهانات"، والأولى سورية والأخرى اسرائيلية، وجب الخلوص من هذا إلى أن أحداً لم يقاتل في سبيل موضوع المنازعة السورية والإسرائيلية، أي في سبيل لبنان، على أي وجه حُمل لبنان هذا وعلى أي نحو جرى تأوُّله وتناوله. فلم يقاتل في سبيل لبنان غير السوريين والإسرائيليين. وهذا خُلْف لا يعلق، ولا يعقل أن صاحب الخطبة أراد هذا الخلف وقصد اليه. ولا يجهل أحد أن المسألة والمنازعة اللبنانيتين سبقتا المحنة الأخيرة بعقود. فنشبتا قبل أن تنشأ الدولة العبرية، وقبل نشوب الحروب الإسرائيلية والعربية، وقبل ولادة الشطر الأعظم من اللبنانيين والسوريين، حكاماً ومحكومين، مبادرين ومراهنين. وكان بمنزلة القلب من المسألة والمنازعة هاتين أمور وقضايا كثيرة، بينها ما ذكر صاحب الخطبة بعضه، وبينها يعود إلى علاقة لبنان ب"الداخلية" كلها وسورية جزء منها، وبينها ما لا يزال الخلاف يدور عليه، على رغم "الصداقة"، السورية، مثل ميزان السلطات، والتأليف بين الجماعات الأهلية وبين الدولة، ومثل الحريات وحمايتها وحصانتها، ومسوِّغ "الدولة - الأمة" اللبنانية المستقلة والسيّدة... وهذه المسائل المتنازعة من المستحيل أن يجيب عنها غير اللبنانيين جواباً مقنعاً. ولعل "امتياز" لبنان، ولو وراء قناع من "زجل"، هو حفظه هذه المسائل خافقة، واستبعاده الجواب القاطع والمختصر عنها وفيها. وإغفال المسائل هذه، أو حملها على لغو لا طائل منه، تحت ذرائع معلنة أو صامتة، مراجعة كبيرة للتقاليد التاريخية اللبنانية، وليس لتقليد خطابي وحسب. والجمع بين السكوت عن حصانة الحرية وبين اختصار المنازعة اللبنانية في ما تختصر فيه، ينبه إلى انعطاف يطوي، سريعاً وفجأة، صفحات من التجربة اللبنانية لم تستخرج "حقائقها" ولم "تُعرف" بعد ولم "تُسمع" وهذه كلمات الخطبة، المعرفة والسمع العموميين والضرورين. وإذا لم يتشارك اللبنانيون في هذه، في الحقائق ومعرفتها وسمعها، خلا القانون الموعود من القوة التي يريد بها "الناس"، المواطنون وطناً بعينه، ما يريدون، ويحكم بها الحاكمون. فإذا خلا القانون من هذه القوة انقلب الحكم إلى "إدارة" خالصة ومجردة. وهذا الباب، الإداري، شغل الخطبة الرئاسية الأولى كلها ولم يترك محلاً متواضعاً للحكم والسياسة. * كاتب لبناني