وحده المُغرض من يقول إنّ المهرجان الأخير ل14 آذار في لبنان كان فاشلاً، أو إنّه لم يحشد الحشد الذي أريد له. وهذا إنّما يرقى إلى مكسب لا يُمارى فيه للقوى التي أعلنت انتقالها إلى المعارضة، مكسبٍ قد يعقّد خطط الخصوم أكانوا في «حزب الله» أم في المُعنْوَن ميشال عون، وهو طبعاً قد يبرهن لرئيس الحكومة المكلّف نجيب ميقاتي أنْ ليس بالشطارة وحدها يحيا الانسان. وغنيّ عن القول إنّ الطاقة التعبويّة لنزع «سلاح المقاومة» ضخمة بذاتها لا تحتاج إلى تضخيم. ذاك أنّ الموضوع هذا، في معزل عن الحريري والجميّل والسنيورة وجعجع، يهمّ كلّ فردٍ مواطنٍ في حياته وعمله وسكنه فضلاً عن خياراته المتّصلة بحريّته ومدنيّته. وهذا فضلاً عن مخاطبة السلاح حساسيّات الجماعات الكثيرة ومخاوفها، وعن نكئه جراح مواضٍ وتجارب لا حصر لها لدى الأفراد اللبنانيّين. وقد جاءت تسريبات «ويكيليكس» الأخيرة تقول كم إنّ «حزب الله»، بسبب السلاح، مكروه ومرفوض حتّى عند حلفائه القدامى منهم والجدد، وإنّ الذين يتظاهرون بمحبّته لا يفعلون إلّا مداراة خوفهم منه. لكنْ، في المقابل، وحده الممالئ من يقول إنّ خطابات الخطباء كانت على سويّة الهدف والمناسبة. وهنا لا نستعمل البتّة معيار أرسطو من أنّ الخطابة واحد من عناصر الفلسفة الثلاثة، لا يقف إلى جانبها إلّا المنطق والديالكتيك. ففي محاكمة الخطابة الآذاريّة، يُضطرّ الناقد إلى الهبوط كثيراً عن سويّة القياس هذه حتّى لا يُتّهم بالقسوة. إلّا أنّنا مهما بلغ بنا النزول، لا نجدنا واقعين في خطابات الخطباء إلّا على أزجال وأبيات شعر و «مَراجل»، تستقي صورها من عوالم باردة وسقيمة جاء بعضها من عالم القرية الرحبانيّ، وبعضها الآخر من مسلسلات التلفزيون اللبنانيّ السابقة على 1975، أو من «ديوان العرب». وكثير منها وافد من «حوربة» القبائل وصرخاتها أو «زلاغيطها». ذاك أنّ العقل والتفسير، هنا، كانا عدوّين لدودين للخطابة. وإلّا لماذا، مثلاً، صار مطلب إزاحة السلاح المطلب المركزيّ الأوّل، وربّما الأوحد، في 2011، وهو لم يكن كذلك في 2010، ناهيك عن الأعوام التي سبقته. ألا يستدعي سؤالٌ كهذا إجابة غير التي قدّمتها أحزاب 8 آذار وأبواقها؟ أوليس في وسعه أن يثير تطلّبنا إلى خطبة سياسيّة تشرح التحوّلات، فيما الخطبةُ، وفق حكيم اليونان الكبير، ما هي إلّا «القدرة، في كلّ حالة معيّنة، على رؤية الوسائل المتاحة للإقناع». هنا ننساق، ولو غصباً عنّا، إلى السياسة التي خلت الخُطب منها، فيما حلّ محلّها الكلام «المهوبِر» (أو بالأجنبيّة المعرّبة عاميّاً «المهيبَر»). ألم يكن ممكناً، مثلاً، أن تقال كلمتان، في معرض نقد السلاح، عن الوجهة السلميّة واللاعنفيّة التي تغزو بعض المنطقة، والتي نجحت في إسقاط نظامين عاتيين في تونس ومصر؟ أولم يكن جديراً ب «شعب 14 آذار» أن يسمع تحليلاً مقنعاً عن تغيّرات العالم العربيّ وموقع لبنان منها، وعن الظاهرة الشبابيّة الصاعدة التي تقصّد سعد الحريري أن يقلّدها بخلع السترة وربطة العنق؟ أو عن معنى «المعارضة» وسلوك طريقها المعقّد في ظلّ هذا الوضع البالغ الخصوصيّة الناجم عن قيام السلاح بحجب الدولة، والالتباس تالياً بين معارضة السلطة ومعارضة السلاح؟ نظنّ أنّ مهمّة الخطبة، مهما تنازلنا عن أرسطو، تبقى «كسب الروح». وهذا إنّما يتأدّى عنه، بين أمور أخرى، تسليح الجمهور بحجج للسجال اليوميّ الذي لا يكاد يوجد إيّاه في أيّ لقاء بين لبنانيّ ولبنانيّ. وهذا، للأسف، ينبغي ألّا يكون مهمّة صعبة إذ الجمهور مستعدّ سلفاً ل «الاقتناع»، مثله مثل الجمهور الآخر المستعدّ سلفاً للتسليم. لكنّنا، مرّةً بعد مرّة، وسنةً بعد سنة، لا نسمع إلّا ما سمعناه من «حوربة» و «هوبرة». حتّى الجديد الذي هو مطلب نزع السلاح لم يرد من ضمن تصوّر أعرض للعلاقة مع الطرف الممسك بالسلاح، تصوّرٍ يقدّم عرضاً يقابل المطالبة بنزعه. ومثل هذا أمر في غاية الإلحاح منظور إليه من زاوية الاستحالتين الراهنتين: استحالة تنفيذه داخليّاً، واستحالة التشجيع على تنفيذه خارجيّاً. أمّا أمر الدولة فأعقد كثيراً من مجرّد المطالبة بها. صحيح أنّ التخلّص من أدوات العنف التي في أيدي الأطراف غير الشرعيّة شرط مسبق لقيام تلك الدولة، غير أنّه ليس شرطاً كافياً بتاتاً. وإذا كان واحدنا قد تجاهل لخمس سنوات باقي الشروط، ما دامت مسألتا السلاح والوصاية تتصدّران الحياة العامّة، فقد آن الأوان، مع السنة السادسة، أن يقال شيء عن الاقتصاد والإدارة والتعليم. وهذا كي لا يبدو أنّ «الدولة» جوهر بديل عن مواصفاته وعن وظائفه ومعانيه. والمُلحّ هنا يزيده إلحاحاً انتقال الجماعة إلى المعارضة، أي إلى حكومة الظلّ المفترضة والمفترض بها امتلاك أجوبة متماسكة عن سائر المسائل المطروحة. والواقع أنّ هذا التجهيل نابع من أحد سببين، أو من السببين معاً: عدم الإدراك والسرّيّة. والأوّل ليس وصفة لحكم قرية، ناهيك عن اعتباره أنّ التفويض الشعبيّ حاصل سلفاً ومسبقاً، ولا حاجة معه لبذل أيّ جهد قابل للبذل. أمّا الثاني فيجافي شيوع المعارف والمعلومات الذي ينضح به زمننا. فهل يليق التكتّم فيما تجهر الملايين من حولنا بالكشف والشفافيّة؟ هكذا يُترك الناس من دون تحصين في الوعي أو تبصير بآفاق أوسع. فهم ربّما عادوا من الساحة أكثر حماسة، إلّا أنّهم حكماً لا يعودون أكثر وعياً وأغنى حججاً. فلا «الإيثوس» لاحت هناك في المهرجان ولا «اللوغوس» ولا «الباثوس». للأسف، ثمّة بين القادة اللبنانيّين خطيب واحد اسمه حسن نصرالله. فلماذا لا يتعلّمون منه؟