قد لا تكون مقارنة البيان الرسمي عن اجتماع الرئيس السوري بشار الأسد ورئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري («سانا» في 19 كانون الأول/ ديسمبر) وتصريح الحريري، اليوم التالي، في مؤتمره الصحافي في السفارة اللبنانية في دمشق، اسوأ طريق الى تشخيص حال العلاقات اللبنانية – السورية غداة ولادة الوزارة اللبنانية الولادة العسيرة. فالأمور التي أوكل قولها، رمزاً وإيماءً، الى وقائع وليس الى أقوال معلنة، مثل رواح رئيس الحكومة اللبناني الى ملاقاة الرئيس السوري من غير إعلان دعوة رسمية وجواب الدعوة، ومن غير اجتماع مجلس الوزراء لبت الدعوة ومناقشة جدول أعمالها، ومن غير وفد رسمي في معية الزائر اللبناني والانتقال بالطائرة الى المطار السوري... – هذه الأمور تبقى موضوع تكهنات متناسلة، وتأويلات لا تنتهي الى غاية. ولا تُخرج مقارنة البيان الرسمي بالمؤتمر الصحافي الجمهورَ من التكهن، ولا تحسم التردد والترجح. ولكنها قد تنبه الى مساحة الخلافات أو التباينات المتاح التعبير عنها اليوم. وهي تنبه، من غير ارتكاب خطأ كبير على الأرجح، الى الشقة (الواسعة) بين «ثقافتين» سياسيتين وذهنيتين تفرقان بين السياسيين اللبنانيين المتحدرين من «الاستقلال الثاني» والساسة السوريين الذين خلفوا جهاز الرئيس السوري السابق على حكم سورية و «إدارة» الشؤون اللبنانية. ويشير بهذه المقارنة ويدعو إليها اقتصار البيان عن المحادثات على «بيان رسمي» صحافي غير مشترك (حكماً)، أذاعته وكالة الأنباء الرسمية، ولم تنسبه الى وزارة الخارجية أو إلى مكتب الرئاسة. وهو يشبه البيانات التي يذيعها الجهاز «الصحافي» أو الإعلامي بدمشق، ويعلن ما يريد أو يود إعلانه. وقلما ينتبه فعلاً الى رأي الزائر أو يلخصه، إذا حاد الزائر عن «خط» الحكم السوري المعلن. وتقتفي مقدمتا البيان السوري والتصريح اللبناني رسماً مشتركاً، على رغم تفاوت المصدرين، السوري الإعلامي الغفل واللبناني السياسي و «العَلَم». فينوّه الأول ب «استعراض التطورات الإيجابية السائدة في لبنان وسورية وتاريخ العلاقات السورية – اللبنانية». ويتناول الثاني حرص «سيادة الرئيس بشار الأسد على ان تبدأ العلاقة في شكل ودي وصادق بين الطرفين». فينسب الثاني، من غير اصطناع الحياد والموضوعية، الى الرئيس السوري «بدء» العلاقة، وودها وصدقها. وجلي ان البيان والتصريح يتكلمان على مسميين اثنين تحت اسم واحد هو «العلاقة» أو «العلاقات». والمصدر السوري يتناول العلاقات (السياسية والأمنية والاقتصادية...)، على حين يتناول المصدر اللبناني المعلوم العلاقة بينه وبين (شبه) نظيره الرسمي. فهذه وحدها يصح القول فيها انها «تبدأ». وفيها وحدها يجوز القول انها «ودية وصادقة»، على سبيل التمني. والبيان الأول يصفها، وهو يجمعها («علاقات») ويسندها الى البلدين، ب «الإيجابية». وعلاقات البلدين غير منقطعة. ولم يفت سعد الحريري الأمر. فهو حرص على الاستدراك. فقال: «... إن هذه العلاقات ليست فقط علاقات شخصية...». ولو كانت شخصية، فهل كانت؟ وربما تجيب ألفاظ رئيس الوزراء اللبناني الشخصية والفردية عن إشكال ذهابه برأسه، مع مستشاره وقريبه، الى القصر الجمهوري السوري، من غير ان تبطل الألفاظ الشخصية أجوبة وتعليلات أخرى (ويمسك المعلق عن الإدلاء بتعليله، حياءً وخجلاً). وعلى جاري عادة البيانات السورية الديبلوماسية، يمدح اصحاب البيان (وهم الساسة أو «القيادة») أنفسهم مديحاً حاراً. فيبادرون الى وصف التطورات «السائدة» بالإيجابية، ويضمون السورية منها الى اللبنانية. ويقصد البيان باللبنانية ما أسهم هو فيه، أي تأليف الوزارة بعد أربعة أشهر «معلقة»، هو معلقها. ولا ينكر رئيس الوزراء اللبناني ان «الرئيس الأسد كان حريصاً على ان تقوم حكومة الوحدة الوطنية في لبنان بجمع كل اللبنانيين». ويخالف التنويه بدور الرئيس السوري شخصياً في جمع اللبنانيين، وبعضهم «يشاور» الأسد على أضعف القول وأقلّه صدقاً ووداً و «يأخذ» برأيه، الوصف المتعالي بالإيجابية. فهذا الوصف يريد الكناية عن الدور السوري، وإغفال طابعه المباشر. ووصفه بالمباشر يُفهم منه التنبيه إليه على وجهيه: السلبي والإيجابي. وإنكار ساسة سورية دورهم، على المعنى الذي غلب على هذا الدور منذ نحو ثلث قرن على أقرب تقدير، جزء من التستر عليه، أي هو جزء منه. والمعالجة المزدوجة هذه أتاحت لحكام سورية إبراز «تناقض» المواقف الدولية في العام ونصف العام قبل اتفاق الدوحة. فقالوا: العالم يدعونا الى كف التدخل في الشؤون اللبنانية ويحضنا على التدخل لدى أصدقائنا، معاً. ومثل هذا البناء للجمل والأحكام السياسية يعده الحكّام هناك مفحماً، وقرينة على انتصار عظيم. ويخطو البيان السوري، في كلامه على «الآثار السلبية التي شابت (العلاقات السورية – اللبنانية) خلال مرحلة معينة»، وذلك في معرض «تجاوز» الآثار السلبية، يخطو خطوة يحاذر عادة الإلماح إليها. فنظام مثل هذا يتفادى الإقرار بالعودة عن الخطأ. وهذه «فضيلة» ينكرها على نفسه. وقد يسوغ الكناية إدخالها في الماضي مرتين: المرحلة (غير) المعينة في البيان الذي يتحاشى التسمية، والإلماح إليها في معرض «تجاوز» مزعوم. وصفة «السلبية» يطلقها البيان السوري على «الآثار». ويفترض ان «الآثار» تتخلف عن فعل هو فاعلها، والسبب فيها. والفعل المعروف والمعلوم الذي أثّر «الآثار» يبقيه البيان مكتوماً، على ما يليق بتنصل من المسؤولية رفع الى مرتبة نهج. وتحقق زيارة سعد (رفيق) الحريري، رئيس الوزراء اللبناني، الإلماح الى التجاوز، وتسند الكلام الغائم وغير الصريح. ومن وجه آخر، تستعيد العبارة الرسمية، في صيغة فعل «شابت»، اجتهاداً رئاسياً سورياً سبق له ان ألمح الى «شوائب» في السيطرة السورية الماحقة على اللبنانيين. وعُدّ ذلك يومها، أي غداة تولي الرئيس الأسد الابن مقاليد الرئاسة، صراحة وشجاعة ما بعدهما صراحة وشجاعة. وهذه طريقة من طرائق الإحجام عن «الفضيلة» المنكرة، وتركها للضعفاء في نفوسهم. ويمدح اللبناني (شبه) نظيره السوري ب «الإيجابية»: «لم أرَ إلا كل إيجابية من الرئيس بشار الأسد في كل المواضيع...». وهو يخصه بالصفة بعد ان عمّ بها المتحاورَيْن: الضيف والمضيف: «ليس هناك موضوع لم نتطرق إليه، وقد فعلنا ذلك بشكل ايجابي». وأتبع هذه بالتوكيد: «بالنسبة إليّ...». ويعزو «الإيجابية» الى «بناء» المباحثات «على أساس المصالح التي تفيد البلدين»، أي الى «ندية» البلدين ومصالحهما و «رئيسيهما»، بحسب الكلمة التي يكرهها أهل العصبية السورية ويهجونها، ويمدحون «الودية»، على خلافها. ولا يغضي الزائر اللبناني عن السلبيات، وليس عن «الآثار» المتخلفة عن مؤثِّر مجهول. فيضعها في قلب الحاضر: «نريد ان نفتح آفاقاً جديدة بين البلدين، وأن نرى نصف الكون الملآن». و «الآفاق الجديدة»، العبارة، يشترك فيها البيان الرسمي السوري ومؤتمر الضيف اللبناني. ولكنها لا تؤدي في السياقين، معنى واحداً. ففتح الآفاق الجديدة اللبناني هو فعل إرادة لا يغفل «نصف الكوب» الفارغ، وثقله ووطأته. وعلى هذا، خلا الكلام اللبناني – في السفارة اللبنانية بدمشق وإلى جانب رئيس الوزراء السفير والقائم بالأعمال، من غير الأمين العام للمجلس الأعلى اللبناني (و)السوري الذي فرضه السوريون في العشاء الرسمي – خلا من المقدمات والأصول الثابتة التي ينيط بها ساسة سورية علاقاتهم «المميزة» بلبنان. وعندما يتلفظ اللبناني بالصفة هذه، المميزة، يحيلها على الإرادة: «نريد علاقات مميزة...»، ويقيدها ب «الصراحة والصدق»، وب «مصلحة البلدين»، وبالمفاوضة على «الكيفية»، وترك «(تسجيل) أحدنا نقطة على الآخر»، وتناول مسائل مثل ترسيم الحدود، كانت منكرة. وهذا يخالف، أو هو ليس على وجه الضبط، الإنشاء اللفظي السوري. فليست «الروابط»، آلياً، «أخوية»، «بين الشعبين» (وهذه تطوي «الشعب الواحد في دولتين»). فالمصلحة هي المعيار، وهي الميزان. والأخوة المفترضة يحدها دخول الشعبين في «بلدين» و «دولتين»، على خلاف ما يصر عليه البيان السوري. والعدوان الإسرائيلي، وهو حصان الرهان السوري الأول، موضوع مقايضة: دعم سورية في الجولان لقاء دعمها لنا في لبنان. ولا يحمل الحريري علاقات البلدين والدولتين والشعبين لا على «علاقات حقيقية واستراتيجية» (بحسب البيان السوري)، ولا على «العروبة ووحدة الصف العربي»، ولا على «تاريخ مشترك». وليس معنى هذا ان ابن رئيس الحكومة اللبناني القتيل لم يصغ إلى التضخم اللفظي و «العاطفي» السوري، أو أنه لا يلقي بالاً إليه، أو ينكر عليه وفيه كل حقيقة. ولكن الرئيس (الوزاري) اللبناني يرد الجواب على الجموح اللفظي والانفعالي «الشقيق» – وهو لم يستعمل الصفة مرة واحدة، على خلاف مجيئها مرتين في البيان السوري المقتضب – بخطو جانبي. فيغرق الجموح بكل ما يفيد الاستقلال والمصالح والإرادة والتنسيق والتذكير ب «فتح السفارات»، و «الترجمة على الأرض»، ورهن المعالجة بالآتي ومفاوضاته وإجراءاته ووزاراته، والتنويه ب «إطار المصالحات العربية التي بدأها خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز في الكويت، ثم في الرياض وقطر، واليوم رأيتم ايضاً نتائجها...». وهذا بعيد من مزاعم «حماية لبنان»، و «المواقف المبدئية (السورية)»، وتولي سورية «تعزيز أمن (لبنان) واستقراره»، الخ. وبعيد من النبرة المستعلية والكلام الناجز. ولا يُخلص من الملاحظات هذه الى ما قيل في المحادثات الطويلة. وليس الفضول هو حادي المقارنة ولا غايتها. ومهما قال الرئيس (الوزاري) اللبناني أو سمع بين «أربع عيون»، على قول أجنبي في الخلوات، فما قاله علناً وجهراً، في عبارات تتستر «عاميتها» على دقتها، لا ينكره لبنانيو «الاستقلال الثاني»، هو المولود من معارضة والده تجديد ولاية اميل لحود قسراً وعنوة، وتحويل لبنان دولة مارقة ومتصدعة، و(المولود) من مشايعة معظم اللبنانيين المعارضة (الحريرية) الوطنية هذه يومذاك واليوم. فالاستقلال اللبناني، في الأمس واليوم وغداً، معركة مستمرة. * كاتب لبناني.