إذا كانت بغداد استهدفت من أزمتها الأخيرة مع لجنة أونسكوم، تحريك القضية العراقية، وتذكير العالم بما كاد يغفله بحكم الاعتياد على ما هو غير معتاد، فقد تحقق لها ذلك. إذ ان ما يلفت النظر في سياق ازمة تبلغ حافة الهاوية، ما تؤديه الادوات الإعلامية والديبلوماسية ومذكرات الاحتجاج. بيد أن المتصور هو وجود هدف آخر لبغداد، يتصل بمحاولة سبر أغوار سياسات الاطراف المعنية بالشأن العراقي، واكتشاف درجات الاستمرار والتغير في مواقف هذه الاطراف بشكل دوري. ومن شأن هدف كهذا تكوين ادراك لدى صانع القرار حول حدود حركته المقبلة وكيفية التعامل مع الانحرافات او المستجدات في غمرة المساعي الدؤوبة للإفلات من الامر الواقع المفروض عليه واقع الحصار والعزلة. والتقدير بهذا الصدد، أن هذا الهدف قد تحقق بدوره، وملخصه أن حصاد أزمة تشرين الثاني نوفمبر 1998 لم يضف شيئاً ايجابياً مذكوراً لمصلحة محددات الموقف العراقي، على الأقل مقارنة بالأوراق التي جمعتها بغداد في غمرة أزمة شباط فبراير الماضي. وثمة مؤشرات بعينها التي يمكن سوقها كحيثيات لهذا التقدير. فعلى الصعيد الدولي، تمكنت آلة الإعلام الاميركية من تطويق الطرح العراقي الذي يشكك في نزاهة أعضاء لجنة التفتيش الدولية، بعد انفضاح ضلوع كثير منهم في اعمال تجسسية تتنافى مع مهمتهم، وتبدت معالم النجاح الاميركي في إصرار اعضاء مجلس الامن بالإجماع على ديمومة عمل اللجنة وتعاون بغداد معها من دون تعقيب على الاحتجاجات العراقية. لقد ظهرت هذه الاحتجاجات كمفردة لا تحظى بتقدير استثنائي على رغم وجاهتها وصحتها المنطقية والقانونية. وعلى الصعيد نفسه، أبدت السياسات الصينية والروسية والفرنسية معارضة للخيار العسكري الاميركي - البريطاني ضد العراق، لكنها ظلت حتى اللحظة الاخيرة، شديدة الحياء في التعبير عن رفض السلوك الاميركي وشديدة اللوم للموقف العراقي. وذلك على غير الحال الذي كانت عليه مواقف هذه الدول في ازمة شباط. وقد يفهم من مجريات المواقف الدولية عموماً، بما فيها مواقف الصين وروسيا وفرنسا، ان محفزات رفض الخيار العسكري، عادت في الازمة الاخيرة الى غيرة على مظهر الشرعية الدولية وضرورة التحرك عبر الاممالمتحدة ونبذ السلوك الاميركي المنفرد، بأكثر من مساندة السياسة العراقية. وفي المناسبة، كان الامين العام للامم المتحدة كوفي انان اقل حماساً لوجهة النظر العراقية هذه المرة، فهو لم يشد الرحال الى بغداد وفقاً لنداءات البعض، وانتظر حتى تلقى رسالة الاستجابة العراقية في مقره، ثم اعلن في ما يشبه الإنذار ان لا مجال للديبلوماسية اذا تكررت الازمة. وعلى الصعيد العربي، لا تخطئ العين فتور المواقف الرسمية من الموقف العراقي، وبطء التحركات الشعبية في الاتجاه نفسه. وبالنظر الى تزامن الازمة وانعقاد اجتماع دول اعلان دمشق. فربما جاز القول بأن السياسات العربية لم توفر بطانة قوية للتصعيد العراقي. وبخاصة في الشق الخاص بطموح بغداد ونزوعها الى رؤية ضوء في نهاية النفق. لقد جاء بيان دول إعلان دمشق قريباً على نحو لافت من الموقف الدولي العام. اذ القى باللائمة على العراق في حال تداعت الازمة الى الاسوأ وهو الخيار العسكري، ولم يشر الى شرعية مطلب بغداد في تحديد موعد نهائي لإزاحة العقوبات الدولية. وكان الحديث العربي عن تحبيذ الحل الديبلوماسي ورفض الخيار العسكري وإبداء التعاطف مع معاناة الشعب العراقي، من باب اللوازم المكرورة. وعلى خلاف رد الفعل تجاه ازمة شباط، كان الموقف العربي بعيداً عن الإيحاء بسياسة عربية ناقمة من السلوك الاميركي المزدوج في مقاربته للقضيتين العراقية والفلسطينية. وربما صح الاعتقاد بأن توقيت التصعيد العراقي ضد تحركات لجنة التفتيش ووقاحة بعض اعضائها - ومن ثم ضد السياسة الاميركية العراقية بعامة - لم يكن موفقاً. ويُعزى ذلك الى الزخم الإعلامي الدعائي الذي استتبع المداخلة الاميركية في مباحثات "واي بلانتيشن" على المسار الفلسطيني للتسوية، الذي يحتاج الى وقت لبيان سوءاته بشكل دقيق. وهناك ملاحظات أخرى من مسار الأزمة، كاستمرار التحالف البريطاني - الاميركي ضد العراق، واستتباع لندن لمواقف واشنطن ظالمة وظالمة، وفقدان الولاياتالمتحدة لخط استراتيجي ينم عن رؤية واضحة حول: ما الذي تريده من العراق. فبخلاف الطرح الاميركي الممجوج حول ضرورة الامتثال العراقي لقرارات الاممالمتحدة والتعبير عن كراهية النظام العراقي القائم، لا يعرف احد بالضبط ما هو سقف السياسة الاميركية العراقية، وما هي المداخل المحتملة للوصول الى هذا السقف باستثناء ديبلوماسية التلويح بالصواريخ بين الحين والآخر. وبالطبع ليس جديداً ما قيل في غضون الازمة وبُعيدها من أن واشنطن سوف تكثف التعامل مع جماعات المعارضة العراقية. والحال كذلك، فإن هذا التحليل أميل الى التشاؤم ازاء إمكان خروج العراق من الأسر الدولي في توقيت قريب معين. معظم المؤشرات المستقاة من الازمة الاخيرة ترجح هذه النتيجة. ولعلها نتيجة تصدق حتى حدوث عملية إنقلابية في السياسة الاقليمية العربية. وسوف يكون من أهم علائم هذه العملية أن يقرر النظام العربي وضع الحالة العراقية على رأس أولوياته، مطالباً الولاياتالمتحدة بتحديد قاطع للوقت والظروف التي يفترض عندها الإفراج عن الشعب العراقي، والتعامل حقيقةً لا دعائياً وفق صيغة الخيارات المفتوحة، عوضاً عن الخيار العسكري المنفرد. * كاتب فلسطيني.