أمير القصيم ييتفقد المرافق البلدية والخدمية شمال مدينة بريدة    عاصفة ثلجية تضرب ولايات الساحل الشرقي الأمريكي    60 شاحنة أولى طلائع الجسر البري الإغاثي السعودي لمساعدة الشعب السوري الشقيق    الأمير محمد بن سلمان يهنئ ملك البحرين وأمير وولي عهد الكويت    جمعية المساجد بالزلفي تُحدث نقلة نوعية في مشاريع بناء المساجد بتطبيق كود البناء السعودي    جمعية تحفيظ القرآن الكريم بشقراء تكرم الفائزين بجائزة الجميح بأكثر من 100 ألف ريال    مجمع الملك عبدالله الطبي بجدة يُنقذ خمسيني بإعادة بناء جدار القفص الصدري الأمامي    انطلاق «المسار البرتقالي» لمترو الرياض.. واكتمال تشغيل المسارات ال 6    اضطرابات في حركة الطيران بألمانيا نتيجة سوء الأحوال الجوية والثلوج    أمانة الشرقية تنهي سلسلة من المشاريع التطويرية في 2024    سعود بن نايف يستقبل سفير جمهورية السودان ومدير جوازات المنطقة الشرقية    رئيس وأعضاء لجنة أهالي البكيرية يشكرون أمير القصيم على رعايته "يوم الوفاء السابع"    المرور : استخدام "الجوال" يتصدّر مسببات الحوادث المرورية في الجوف    هيئة التأمين ُتبين منافع وثيقة التأمين على العيوب الخفية لحماية المشاريع الإنشائية وضمان جودتها    «الإحصاء»: انخفاض استهلاك المياه الجوفية غير المتجددة بمقدار 7% في عام 2023    مهرجان الحمضيات التاسع يسجّل رقمًا قياسياً بحضور أكثر من 70 ألف زائر    قوات الاحتلال الإسرائيلي تعتقل شابين وتداهم منازل في الخليل    بعد إغلاق «الهدا».. متى يتحرك طريق السيل ؟    بقايا طريق أحد القنفذة يهدد الأرواح.. وجهات تتقاذف المسؤولية    مستشفى الشرائع في انتظار التشغيل.. المبنى جاهز    هل تصبح خطوط موضة أزياء المرأة تقنية ؟    5 تصرفات يومية قد تتلف قلبك    البحرين بطلاً لكأس «خليجي 26»    «عون الحرم».. 46 ألف مستفيد من ذوي الإعاقة    إسطبل أبناء الملك عبدالله يتزعم الأبطال بثلاث كؤوس    فاتح ينطلق مع الشباب بمواجهتي الفيحاء والأهلي    أرض العُلا    رضيع بدوام يجني 108 آلاف دولار في 6 شهور    «تليغرام» يتيح التحقق من الحسابات بتحديث جديد    وصول الطائرة الإغاثية السعودية الخامسة إلى مطار دمشق الدولي    الداخلية أكدت العقوبات المشددة.. ضبط 19541 مخالفًا لأنظمة الإقامة وأمن الحدود    جمعية «صواب» بجازان تسيّر أولى رحلات العمرة ل«40» متعافياً من الإدمان    4,494 حقيبة إيوائية لقطاع غزة    «911» تلقى 2,606,195 اتصالاً في 12 شهراً    وفاة والدة الأمير الوليد بن طلال بن عبدالعزيز آل سعود    المهرجانات الشتوية.. إقبال متزايد على الفعاليات المتنوعة    الصندوق الثقافي يعزز قدرات رواد الأعمال في قطاع الأزياء    القيادة تعزي الرئيس الأمريكي في ضحايا الحادث الإرهابي الذي وقع في مدينة نيو أورليانز    ما مصير قوة الدولار في 2025 ؟    انطلاق ملتقى دعاة «الشؤون الإسلامية» في نيجيريا    الكذب على النفس    في الجولة 15 من دوري" يلو".. العربي في مواجهة الصفا.. والباطن في ضيافة العدالة    زيارة وفد الإدارة الجديدة للرياض.. تقدير مكانة المملكة ودعمها لاستقرار سوريا وتطلعات شعبها    استشاري ل«عكاظ»: 5 نقاط مهمة في كلاسيكو كأس الملك    مخلفات العنب تعزز علاجات السرطان    الإنسان الواقعي في العالم الافتراضي    مشكلات بعض القضاة ما زالت حاضرة    الفاشية.. إرهاب سياسي كبير !    المرأة السعودية من التعليم إلى التمكين    ماريسكا: على تشيلسي أن يكون أكثر حسما    تأخر المرأة في الزواج.. هل هو مشكلة !    القيادة التربوية نحو التمكين    البرد لم يمنع نانسي ورامي من رومانسية البوب    ظلموه.. فمن ينصفه؟    حركية المجتمع بحركية القرار    كيف تُخمد الشائعات؟    2.6 مليون اتصال للطوارئ الموحد    الكلية الأمنية تنظّم مشروع «السير الطويل» بمعهد التدريب النسائي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



فتى في السابعة عشرة اسمه خيري شلبي تسرّع فنشر قصة "المأساة الخالدة"
نشر في الحياة يوم 24 - 11 - 1998

كان عمري سبعة عشر عاماً حينما انتهيت من كتابة قصة طويلة بعنوان "المأساة الخالدة"، وهي عبارة عن قصة حب حاكيت فيها ما أدمنت قراءته من قصص محمود كامل المحامي وابراهيم الورداني ومحمد عبدالحليم عبدالله برومانسيتها الزاعقة. وقد قرأتها على الاستاذ عبدالمعطي المسيري رئيس جميعة ادباء دمنهور في ذلك الحين، الذي كان أديباً كبيراً وصاحب مقهى كبير شهير، وعلى الرغم من كتبه العديدة المطبوعة على نفقته طباعة فاخرة، والتي امتدحها النقاد والادباء الكبار آنذاك من أمثال توفيق الحكيم ويحىى حقي وعباس العقاد وطه حسين بمقالات منشورة في الصحف تزف الى القراء نبأ هذا الاديب القهوجي صاحب القصص الواقعية والسبيكة الاسلوبية المشبعة بعميق المعاني ورحيق التجارب، فإنه مع ذلك لم يغادر منصة الماركات في مقهاه وظل يديرها ويتابع اجتماعات الجمعية وندواتها اليومية ويشارك بنصيب موفور في المناقشات فيما هو يراقب "الطلبات" الخارجة على صواني الجرسونات ويتلقى الماركات بدقة حسابية لا تخطئ في مليم واحد.
استمع إلى قصتي بإمعان، فانبسطت ملامح وجهه بابتسامة عطف وتشجيع كبيرة، وقال انه سيتقبل رومانسيتها الزاعقة نظراً لأن تجاربي في الحياة كشاب صغير السن لا تمكنني بعد من كتابة ادب واقعي يرى انه قد بات ضرورياً للكشف عن معاناة الشعب المصري حتى تنتبه اليها حكومة الثورة، وتعمل على رفعها وإقالة هذا الشعب المسكين من ربقة الذل والفقر الأزلي، وقال ايضا إنه سعيد بقصتي هذه لأنها اكدت له سلامة فطرتي القصصية التي سبق ان نبهني اليها مراراً منذ ان اسمعتهم اشعاري في الندوة منذ عام مضى، ولا حظوا جميعاً أن "القص" في اشعاري يتفوق على "الشعر" فأضاف هو ليلتها بأن هذا لا ينبغي ان يزعجني طالما انني استطيع ان اكون قاصاً في يوم من الايام، إذا ما انتبهت الى هذه الموهبة ونميتها بالقراءة والتجربة الانسانية.
بموجب هذه القصة مُنحت عضوية مبكرة في جمعية ادباء دمنهور، فأصابني زهو كبير مستمد من بريق الاسماء الكبيرة اللامعة انذاك بين اعضاء الجمعية الفضلاء مثل امين يوسف غراب واسماعيل المبروك ومحمد صدقي من المشهورين في القاهرة يملأون الصحف بقصصهم ومقالاتهم واغنياتهم، ومثل محمود علوان والمسيري وسعيد فايد من قدامى المؤسسين، ومثل كتاب شبان كانوا في ذلك الحين من اشبال المقهى مثل الشاعر فتحي سعيد والصحافي عبدالقادر حميدة والقاص رجب البنا والقاص بكر رشوان والقاص محمود ابو المجد والقاص رسمي عامر، والقاص محمد عبدالمعطي حجازي، ومعظمهم طلبة في جامعة الاسكندرية فيما عدا قلة تعمل في بعض الوظائف الادارية، وجميعهم كانوا ينشرون قصصهم في المجلات الصحافية والثقافية التي تصدر في القاهرة وفي بيروت ودمشق، كما ان اولئك الشبان كانوا هم عصب الندوات اليومية، خصوصاً في شهور الاجازة الصيفية، وكان الاستاذ المسيري فخوراً بهم.
قصصهم التي كنت استمع اليها في الندوات واتابع النقاش حولها، ذلك النقاش الذي كان يديره محمد عبدالمعطي حجازي بكفاءة عالية، كانت تبهرني حين اقرأها منشورة في جريدة "المساء" أو مجلة "التحرير" او مجلة "البوليس" أو مجلة "الرسالة الجديدة"، وكنت أتلذذ بالتحديق في اسمائهم المطبوعة على الورق بخط تخين، فلا أكاد اصدق ان هذه الاسماء المطبوعة على متون الصحف إنما هي لناس اعرفهم والتقيهم كل يوم ولي بينهم اصدقاء، نتجول معاً في شوارع دمنهور وحواريها ومتنزهاتها ومقاهيها الجميلة العامرة بصخب حميم. لهذا رحت اتحرق لمجيء ذلك اليوم الذي ارى فيه اسمي مطبوعاً على الورق مثلهم، ولم أكن اعرف كيف يوصلون قصصهم الى الاماكن التي تنشرها لهم، هل يسلمونها باليد لرؤساء التحرير؟ هل يرسلونها بالبريد؟ وهل من شروط النشر ان يكونوا معروفين لدى رؤساء التحرير لكي يولوهم عنايتهم؟!
العجيب انني لم احاول توجيه اي تساؤل من هذه التساؤلات لأي واحد ممن ينشرون والتقيهم كل يوم. اغلب الظن انني كنت اخشى ان يتهموني بالصفاقة، إذ إنني قد أكون في نظرهم غير جدير بشرف النشر مثلهم، والواقع انني كنت ارى نفسي هكذا بالفعل، وظلت هذه هي فكرتي عن نفسي لزمن طويل حتى بعد ان كبرت وصرت معروفاً للقراء على نطاق واسع من خلال اشتغالي بالصحافة، كل عمل ادبي نشرته في مطلع حياتي الادبية كنت اتعجب كيف وافقوا على نشره مع انه في نظري مجرد محاولة لا ترقى الى المستوى الذي ارجوه لنفسي، قياساً على ما اقرأه من روائع الاعمال الكبيرة المبهرة في الادب العالمي الذي انفتحت عليه بفضل احتكاكي بشبان المقهى أولئك، خصوصاً محمد عبدالمعطي حجازي وبكر رشوان. وصحيح انني قرأت في سنوات الصبا في القرية كل ما كانت تنشره سلسلة "روايات الهلال" من ترجمات للادب العالمي حيث كان ابي مواظباً على شراء الشقيقات الثلاث: "روايات الهلال" و"كتاب الهلال" ومجلة "الهلال" بانتظام وحرص دقيقين، كما قرأت آلافاً من روايات الجيب وروكا مبول، الا ان الادب العالمي ذا القيمة الرفيعة بترجمات دقيقة بديعة الاسلوب لم اتعرف عليه جيداً الا في دمنهور، فعبر مترجمات دار اليقظة الدمشقية ودار الشرق الروسية ودار المعارف ودار النهضة، قرأت تولستوي وديستويفسكي وتشيكوف وغوركي وبلزاك واميل زولا وفولتير وهيرمان ملفل وشتاينبك وهيوارد فاست وتوماس مان وجيته وشيلي وديكنز وشيكسبير وبيرل بك وويلز وجول فيرن واندريه جيد وموروا وهوغو وسرفانتس وغيرهم وغيرهم. ومن حسن حظي ان منشورات مجلة "الكاتب المصري" بكاملها كانت موجودة في مكتبة المقهى، وأما سلسلة مطبوعات كتابي لحلمي مراد فكنت اشتريها احياناً لرخص ثمنها، واما سلسلة الألف كتاب فكتب استعير بعضها من بعض الاصدقاء.
إلا أن الحظ كان سخياً معي حينما تعرفت على زميل لي في معهد المعلمين العام يدعى مصطفى محمود حمدان كان مدمناً للقراءة فقادني الى اكتشاف اذهلني، حيث عرّفني على مكتبة الحوفي، وهي مكتبة مدفونة في شارع خلفي وراء مديرية دمنهور متخصصة في بيع وتأجير الكتب القديمة بقروش زهيدة جداً، تضم تلالاً وجبالاً من الكتب والدوريات العتيقة والحديثة، لكن صاحبها محمود الحوفي يعرف كل ورقة فيها، ويعرف اخبار الكتب الصادرة حديثاً، وربما وجدت عنده كتباً صدرت في الشهر نفسه او الاسبوع نفسه اشتراها ناس وقرأوها ثم باعوها له او استبدلوها بكتب اخرى، ونظامه انك تشتري منه كتاباً ثم تقرأه وتعيده اليه لتأخذ غيره نظير قرش واحد تدفعه ايجاراً للكتاب. كانت مكتبة الحوفي هذه بالنسبة إليّ اشبه بصندوق الدنيا، ما من كتاب جاءني نبأه او حلمت بقراءته، قديماً كان أم حديثاً، من التراث العربي او من الادب العالمي المعاصر، الا وجدته عند الحوفي، يمد يده ويسحبه ببساطة وسلاسة دون عناء فيما هو واقف على بنك خشبي يعالج فوقه بعض الكتب المتهرئة فيلصقها بالصمغ ويضع لها اغلفة بديلة من ورق الدوسيهات. بفضل هذه المكتبة قرأت ما لا حصر له من الكتب، فتوثقت علاقتي بالكتاب القديم، فَقِدمُه يفتح شهيتي للقراءة بصورة عجيبة، ربما لأنني استشعر في صفحاته انفاس الاخرين وبصماتهم وبعض تعليقاتهم على الهوامش على رغم انني أمقت الكتابة على هوامش الكتب الخاصة بمكتبتي، إنني مع ذلك يؤنسني الكتاب القديم ولا سيما إذا كان من عصور مضت وأزمنة غابرة فحينئذ ترتفع متعتي الى حد النشوة.
إلا ان القراءة المكثفة آنذاك بالنسبة إليّ كانت اشبه ببرازخ مياه انفتحت على ارض شرقانة فأحيت ما في باطنها من مكونات نباتية فصارت تنبت نباتات شيطانية مجهولة الهوية، وإن كان من الممكن ان تكون ذات قيمة لو انقعتها للدراسة ووعيت بها. صرت اكتب اشياء لا هي بالشعر ولا بالقصة ولا بالمسرحية، إنما هي فيها من كل هذا، شطرات متتالية تشبه الشعر المنثور، حوارات متفلسفة تشبه مسرحيات توفيق الحكيم، مشاهد من الحياة تشبه قصص يحيى حقي، صور ادبية تحليلية تشبه كتابات ابراهيم المصري، خواطر مبهمة مكثفة الصياغة تشبه كتابات الدكتور بشر فارس، مواقف عنترية حماسية تحاكي كتابات السير الشعبية، عبارات مصكوكة تشبه المأثورات الادبية والطرائف والملَح في كتاب المستطرف من كل فن مستظرف. وكان أبي قد نصحني وانا صبي بأن احتفظ بكشكول انقل فيه - بخطي - فقرات مما يعجبني فيما اقرأه، وألخص فيه الكتب التي تروقني، فكان هذا الكشكول اشبه بكرنفال غاية في الطرافة، لكنه صاحب الفضل الاكبر في تقوية ذاكرتي الادبية وفي ربطي بأمهات الكتب، وكان ايضاً صاحب التأثير في ما رحت اكتبه آنذاك مما اصبحت اسميه باللغط الادبي أو المنوعات الادبية غير الرشيدة.
حتى قصة "المأساة الخالدة" التي كانت اول شيء متماسك ومحدد الملامح اكتبه، لم تكن في حقيقة امرها الا اصداء مما قرأته انعجنت في بعضها آخذة شكل قصة رومانسية موهومة، فيها من اسكندر دوماس الكبير ومن عبدالحليم عبدالله ويوسف السباعي وابراهيم الورداني وسومرست موم وموريس لبلان والجاحظ وتوفيق الحكيم وطه حسين صاحب "المعذبون في الارض" و"شجرة البؤس". كانت خليطاً عجيباً من اللغط والاصداء والاقتباسات الكثيرة المدخولة في السياق بصورة تنكرية.
لكنني مع الأسف الشديد لم ادرك ذلك إلا بعد ان وقعت في المحظور، والأكثر مدعاة للأسف ان المسافة الزمنية بين الوقوع في المحظور واكتشافي حقيقة ما كتبت كانت اقل من عام، ربما بضعة اشهر قليلة، اكتشفت بعدها، وبشكل مفاجئ كما لو ان طاقة ضوء انفتحت امامي فبددت كل الظلام، حقيقة الادب ومعنى الكتابة الحقيقية، معنى ان يكون المرء كاتباً، ومعنى ان يكون قاصاً على وجه التحديد، مما اوقعني في حال من الخجل ظللت اتعلم منها الدروس حتى اليوم.
ذلك ان تحرقي لرؤية اسمي مطبوعاً على الورق كأصدقائي في جمعية ادباء دمنهور هو الذي اوقعني في ذلك المحظور. لقد قررت طبع القصة على نفقتي مع انني لست فقيراً فحسب بل معدماً تماماً، والقروش التي اتبلغ بها وأستأجر بها الكتب من مكتبة الحوفي اقتنصها اقتناصاً من حنك الاسد، اشتغل كل ليلة ثلاث او اربع ساعات لدى احد الخياطين المتخصصين في الجلابيب البلدية حيث انني تعلمت هذه الحرفة في قريتي وأنا طفل، واكتسبت خبرة ومراناً في السراجة "والتنبيت" على ماكينة الخياطة وصنع العراوي وتركيب الاقطنة، ثم ان المصروف الذي اتقاضاه من ابي لا يزيد على خمسة وعشرين قرشاً كل نصف شهر، ادفع منها ايجار الغرفة المشتركة بيني وبين اربعة من الزملاء، وما يتبقى لا يفي بنفقات الغموس ومصاريف الدراسة من كراريس وملخصات واقلام، وهذا المبلغ على ضآلته هو اقصى ما في مُكْنة ابي يستقضيه بطلوع الروح، ولو كان الامر بيدي لأرسلت له نقوداً بدلاً من ان اطالبه بمزيد من النقود.
سنة ذاك كنت بالفرقة الثالثة بمعهد المعلمين العام، وأسرتي في احدى قرى محافظة كفر الشيخ تنتظر تخرجي بفارغ الصبر بعد عامين لكي اصير مدرساً ابتدائياً واحمل مسؤولية الاسرة بدلاً من أبي الذي طعن في السن الى حد يثير الاشفاق والعطف، ومع ذلك في جرأة حسدني عليها الكثيرون حملت قصتي وتوجهت بها الى مطبعة التوفيق في شارع سوق السمك في دمنهور، وطالبت صاحبها بأن يحسب لي تكاليف طبعها في خمسمئة نسخة، فقال ان العدد كلما زاد قلت التكاليف، وحسب لي تكاليف الف نسخة فكانت حوالي خمسة وثلاثين جنيها، وبحسبة اخرى اكد لي انني لو بعت النسخة بستة قروش فإنني سأكسب مثل هذا المبلغ بعد التكاليف. فتوهمت في الحال انني قد بعت النسخ كلها بالفعل وكسبت المبلغ واشتهرت فوق ذلك، وإذا بإلهام إلهي يشرق امام عيني فجأة: ان ابيع النسخ قبل طبعها لزملائي ونظراً لأنني معروف لهم جيدا فمن المؤكد انهم سيشجعونني، فحتى لو نجحت في بيع ربع هذه الكمية فإنني على الاقل سأجمع تكاليف الطباعة، وهكذا طلبت من الرجل ان يطبع لي دفتري ايصالات باسم القصة واسمي وسعر البيع لكي اعطي، ايصالاً لكل من اتقاضي منه ثمن النسخة، فحسب تكاليف ألف إيصال فإذا هي فوق الجنيهين بقليل، فاسقط في يدي، هذا مبلغ لم احتكم عليه طوال حياتي السابقة، فمشيت يائساً بائساً احملق في الارض لعلني اعثر على محفظة نقود سقطت من احد التجار، قادتني خطواتي تلقائياً الى زميل من بلدتنا في المعهد نفسه ولكن في السنة النهائية، ابوه من الاعيان الموسرين ولهذا يسكن مع اخته الطالبة في معهد المعلمات في شقة في عمارة محترمة في حي نظيف وفي الطابق الرابع، ولا يلبس من سوق الكانتو مثلنا، بل يفصل البدل الكاملة ذات الصديري والقميص الافرنجي ويرتدي رباط عنق مثل معلمينا المحترمين ذوي المهابة، يضع الساعة امّ كتينة في جيب الصديري، ويضع في الجيب الداخلي للجاكيت محفظة نقود من الجلد الثمين، ويأكل اللحم والخضروات المطبوخة في شقته، وينام على سرير نظيف وثير بملاءة ولحاف بينما ننام نحن على حصائر فوق الارض ومخدات صلبة وبطاطين من مخلفات الجيش تتصاعد من صوفها رائحة زنخة.
جلست امامه على الكرسي الجلدي نفسه الذي يستهويني كلما زرته، وبعد ان شربت الشاي الثقيل - الذي كثيرا ما كان بديلاً عن الغذاء - عرضت عليه فكرتي المغربة: ان يعطيني ثلاثة جنيهات اطبع بها الايصالات في مقابل ان اضع اسمه بجواري على غلاف القصة كشريك لي في التأليف، لدهشتي وجدته ينبهر بالفكرة ويتحمس بها، وهكذا طبعنا الايصالات باسمينا: خيري احمد شلبي وعزت ابو زيد مغيزل، ثم اتصلنا بزميل آخر من بلدتنا وابن مدرسنا في القرية هو محمد قمر الدولة الشرنوبي، الطبيب الكبير الآن وعميد كلية طب الزقازيق، والذي لا يزال يمارس هوايته في كتابة القصيدة والقصة والمسرحية، فكتب لنا تقريظاً شعرياً نشرناه في مفتتح القصة، لا ازال اذكر بعض ابيات قصيدته التي كان مطلعها:
هاتوا الشموس لكي أصوغ مقالي
ثم يقول:
عز الشباب وخيره في عزة
ولمثل خيري تزدهي أقوالي..
ولأن شريكي الجديد نصف بيك صغير، أو لعله نصف باشا، فقد توليت أنا مهمة توزيع الايصالات. بدأت بالاساتذة المعلمين. وكان الاستفتاح ندياً، إذ دخل علينا الاستاذ محمد محمود الحوفي - غير صاحب المكتبة إياها - استاذ تاريخ الأدب العربي، وإذ وقفنا كالعادة في استقباله، وما أن أشار لنا بيده أن نجلس حتى خرجت عن القمطر متقدماً نحوه على استحياء وخجل وفي يدي دفتر الايصالات مفتوحاً. قدمته له، فتمعن في المكتوب وابتسم واحمر وجهه إشراقاً واغتباطاً، وبكل رقة نزع من الدفتر ايصالا فارغاً من البيانات والتوقيع، طواه ووضعه في جيبه ثم أخرج محفظته ونزع منها جنيهاً كاملاً اعطاه لي قائلاً: كله لك، ثم ربت على كتفي دافعاً إياي برفق الى القمطر ودموع الفرح والامتنان تنهمر على خدي. فلما دخل علينا الاستاذ الثاني الانصاري محمد ابراهيم في الحصة التالية وتقدمت نحوه بدفتر الايصالات صاح العيال كالكورس الجميل في اغنية حميمة "الاستاذ الحوفي ادّاله جنيه بحاله"، فكأنهم طالبوه بالمثل. وقد كان. وهكذا تكررت الاسطوانة مع جميع الاساتذة. وهكذا أيضاً مع جميع الزملاء حيث تكفل زملاء فصلي - بنبرة تفاخرية صافية - بالدعاية لي بين الفصول كلها، أما الفصل الوشيك التخرج فقد جامل زميله بأن اشترى نسخاً بعدد الفصل كله.
لا تسل عن فرحتنا يوم استلامنا للنسخ في حقيبة سفر كبيرة. وكان مشهداً مروعاً. وقفت في حوش المعهد في فسحة الغداء وأمامي الحقيبة وفوقها رصّات من النسخ تتعدد ألوان أغلفتها بين الأحمر والأزرق والأصفر والأبيض، وقد احتاطت بي جموع الطلاب في صخب وزئيط هائلين، كل من يقدم لي إيصالاً أسلمه نسخته، وهناك من صدق أن الأمر جد لا هزل فيه إذ يرى القصة مطبوعة أمامه بالفعل فأتى واشترى. ثم انتقلت الى بلدتنا لأوزع فيها ما استطيع من النسخ، فكان مشهداً آخر لا أنساه، حيث أمشي في الشارع متأبطاً الرصّات، وكل من يلتقيني يستوقفني ليتفرج ويقلب في النسخ ويتمعن في اسمي بانبهار وإعجاب وشغف، فبعت قدراً لا بأس به من النسخ.
غير أن هذه الفرحة الكبيرة لم تدم سوى بضعة أشهر، ربما قبل أن تنتهي السنة الدراسة نفسها، حيث اختمرت قراءاتي السابقة وأينعت دفعة واحدة ليشق في ذهني ووجداني مفهوم صحيح للأدب الإبداعي وكيف يلعب دوره في إعادة بناء الإنسان على أسس متينة يرتقي فوقها الى أعلى طوابق ممكنة. وكان اكتمال هذا المفهوم مواكباً لاكتشاف مجموعة من الكتب كان لها أشد الوقع في قلبي وعقلي، أذكر من بينها: "الوردة الذهبية" لكاتب روسي نسيت اسمه، "بداية ونهاية" لنجيب محفوظ، "أرخص ليالي" ليوسف إدريس، "قنديل أم هاشم" ليحىى حقي، "الناس في بلادي" لصلاح عبد الصبور، "في أزمة الثقافة المصرية" لمحمود العالم وعبدالعظيم أنيس، "الميزان الجديد" و"نماذج بشرية" لمحمد مندور، "الأرض" لعبدالرحمن الشرقاوي، "الماء العكر" لسعد مكاوي، "أحرار وراء القضبان" لفؤاد حداد، "كلمة سلام" لصلاح جاهين، "ميلاد جديد" لشاكر خصباك، "مليم الأكبر" لعادل كامل، وكتب أخرى في التاريخ المعاصر لعل أهمها كتاب "في أصول المسألة المصرية" لشهدي عطية وكتاب "سعد زغلول" للعقاد.
سرعان ما كرهت قصة "المأساة الخالدة" واعتبرتها مأساة في حد ذاتها، وكرهت أن يأتي أحد بسيرتها أمامي كأنها عورة ينبغي سترها، وكنت قد أهديت نسخة للأستاد المسيري فإذا به يمتعض من المفاجأة فيقول لي كلمة واحدة بنبرة أسيفة: "أرى أنك قد تعجلت فأسرفت على نفسك!"، ولقد تمنيت لو أنني استطيع محوها من ذاكرة الاصدقاء في المقهى، لأنني بعد شهرين أو ثلاثة من صدورها ارتفع مستوى ادراكي لكل شيء وصرت أشارك في النقاش بطلاقة وبأحكام صحيحة ومفاهيم سليمة، إلا أن اصدقائي سرعان ما يظهر لي على وجوههم أنهم قد قارنوا بين كلامي هذا بعمقه المفاجئ وبين قصتي التي قرأوها مطبوعة منذ قليل فتغبلهم الدهشة الممزوجة بالسخرية وتكاد ألسنتهم تتهمني بصريح العبارات أنني أردد كلاماً حفظته من مصادر مهمة، إذ ليس من المعقول أن صاحب هذا الكلام المتفهم المتعمق هو نفسه صاحب هذه القصة التافهة التي لم يمض على نشرها سوى اسابيع عدة. فكان الغيظ يأكل صدري، والحرج يتصبب عرقاً على وجهي، فأتلفت حولي في حيرة وأسى، فتلتقي نظراتي بنظرات الاستاذ المسيري فأرى فيها تشفياً أبوياً حميماً، فيما تتسع ابتسامة العطف على شفتيه قائلة لي في أسف: "تستاهل".
صقر قريش - المعادي - صباح السبت 14 تشرين الثاني/ نوفمبر 1998.
روائي مصري


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.