يبدو أن هناك مثقّفين مصريّين وعرباً، وجدوا في مواقع التواصل الاجتماعي على شبكة الإنترنت ما يصلح لتحويلها مقاهي ثقافيّة وملتقيات أدبيّة افتراضيّة، خصوصاً «فايسبوك». إذ يفرد جدرانه بلا حدود لكتاباتهم وفنونهم، في ظل أزمات شتى تواجههم لدى محاولة نشر «إبداعاتهم» بالطرق التقليديّة. وتدريجاً، بات موقع «فايسبوك» جزءاً من الثقافة التفاعليّة اليوميّة بوصفه مكاناً (وزماناً) للقاء والحضور، ومصدراً للنشر والمعلومات والصدامات والصداقات. وفي شكله التقليدي، كان المقهى العادي مركزاً للنشر والنقد ونيل الاعتراف. إذ غالباً ما قصده المثقّف- المبدع على أمل أن يعينه على طَرق أبواب تمكّنه من تحقيق نفسه ثقافيّاً وأدبيّاً واجتماعيّاً. وما أن هلّت حقبة «فايسبوك» حتى انقرضت جاذبيته، بل كادت تذوي. وأصبح «فايسبوك» مقهى افتراضيّاً لا يتطلب دخوله أو الخروج منه أكثر من ضغطة على أزرار لوحة المفاتيح في الكومبيوتر أو الخليوي. استعادة نجيب محفوظ في هذا الصدد، أعرب الدكتور كامل رحومة، عضو «جمعية محبي عبدالوهاب المسيري لتنمية الفنون والآداب» عن اعتقاده بوجوب التعامل الحذر مع ظاهرة مقاهي المثقّفين الافتراضيّة. ولاحظ أنّ التحديث المحمول على الشبكات الافتراضية لا يوجب مواجهة حديّة، بل أن يتضمّن «فرصاً إيجابيّة تدفعنا إلى توجيه الأبناء صوب مُسايرة العصر، مع التمسّك بالهوية وامتلاك زمام الشخصية الوطنية داخل النسق الحداثي الجديد. وليست تلك الأمور سهلة تماماً، لكنها ليست عسيرة أيضاً... لنفكر في مثقف من وزن نجيب محفوظ الذي نجح في اجتذاب أعداد كبيرة من المثقّفين إلى جلسات مثمرة شهدتها مقاه فعليّة كثيرة في القاهرة». ويذكر أن رحومة وضع كتاباً بعنوان «المقاهي الثقافيّة في العالم: القاهرة- باريس- دمنهور»، وأصدرته أخيراً «دار دلتا للنشر». وفي نفسٍ مشابه، قدّم الأستاذ عيد عبدالحليم في كتابه «حكاية مقاهي الصفوة والحرافيش»، تأمّلاً واسعاً عن «التغيّرات الشكليّة والجوهريّة في بنية المقهى وشكله... الأرجح أنه سيبقى إحدى الظواهر المكانيّة المهمة في تاريخ الشعوب ومستقبلها، على رغم تواهن تأثيره مع دخول عناصر ترفيهية تنتمي إلى ثقافة العولمة». ورأى أن للمقهى دوراً كبيراً في التوعية وإنتاج الثقافة واستهلاكها وتداولها، بل هو مكان للتفاعل بين المثقّفين. وأضاف: «شكّل المقهى مساحة للحوار بين الأجيال، والتثاقف بين المجموعات، والتواصل بين الأنماط البشرية، وتفعيل الصداقة، وفضاء تنشيطي تلقائي يساهم في نشر الثقافة. في ذلك المعنى، كان رافداً مؤثّراً في توجّهات المجتمع الثقافي، خصوصاً بفضل الروابط التي نسجتها المقاهي الثقافيّة بين روادها». وفي معنى مشابه، أعرب الشاعر عبدالمنعم رمضان في حوار مع «الحياة» أن لا علاقة له مع الكومبيوتر على الإطلاق، بل إنّه لا يستخدم «فايسبوك»، فلا يتحدّث عنه. وأضاف: «كانت المقاهي دائماً مكاناً للتواصل بين المثقّفين. والآن، أصبح الوضع أصعب مما كان بكثير. إذ أضحت البيوت ضيقة جداً وسقوفها واطئة، فانتفت فكرة أن تصلح لإقامة صالونات ثقافيّة مثل صالون الناقد الراحل عبدالمنعم تليمة أو صالون العقاد. في المقابل، لا تزال المقاهي الفعليّة تتسم بما لا يمكن أن تحقّقه الافتراضيّة التي تتيح التحاور من دون تماس. نحن في حاجة دائمة إلى التماس كبشر، بل يسلّم بعضنا على بعض بالأيدي وربما بالأحضان والقبلات على الوجنتين. في الشكل التقليدي للمقهى، يمكنني أن أرفع صوتي أو أخفضه. أبتسم في وجهك، أشعر أنني في حضرة كائنات بشريّة. لا يتحقّق ذلك أبداً في ال «سوشال ميديا». باتت المقاهي الآن ضرورة قصوى بوصفها فضاء حرية يكفل لك أن تعبر عن نفسك في صورة أفضل مما هو على مواقع التواصل الاجتماعي. في «فايسبوك»، أنت بمفردك، أما في المقهى فأنت بين الآخرين. ونحتاج دائماً أن نكون بين الآخرين، لنراهم ونلمسهم ونسمعهم عبر فضاء طبيعي وليس عبر الشاشات وحدها». في السياق عينه، حثّ عبدالمنعم رمضان على «تقبّل وجود الآخر مهما كانت درجة اختلافك معه، بل هو أمر إنساني صحي. لا يتحقق في المقاهي الافتراضيّة التي تتيح لك حظر وإلغاء وإقصاء، كل مَن تختلف معهم، وهو أمر يصل إلى مرتبة القتل المعنوي. في المقهى التقليدي أنت تتدرب على قبول الآخر. هناك، العالم ليس أنا، بل نحن». وأضاف: «أحرص على «قعدة الجمعة» في مقهى «زهرة البستان» الثقافي الشهير في وسط القاهرة. ويعود فضل عقدها بانتظام إلى الروائي وحيد الطويلة الذي جعل الجلسة تتجاوز التكنولوجيا الحديثة، فصارت تجتذب مثقّفين من دول عدة». في المقابل، رأى الكاتب رشيد غمري أن ارتباط المقاهي بالثقافة والأدب ليس جديداً، بل متجذر في المجتمع المصري والعربي بصورة إيجابيّة. وأعرب عن قناعته بأنه من المستطاع النظر إليها من زاويتين مختلفتين. من ناحية، اتّخذ بعض الأدباء المقهى التقليدي مكاناً للكتابة، وأشهرهم نجيب محفوظ. ومن ناحية ثانية، يملك بعض الكتاب طقوساً شديدة الخصوصيّة ولا يستطيعون الكتابة إلا في أماكن هادئة. ويفيد المقهى الافتراضي في تواصل الأدباء مع بعضهم بعضاً، ليعلموا مثلاً أنّ زميلاً لهم أصدر كتاباً جديداً. إذاً، يظل المقهى في شكله التقليدي حلقة الوصل الأساسية بين المثقّفين عموماً. وفي مثل عملي، هناك اللقاء الأسبوعي الذي كان يعقده الكاتب علاء الأسواني، صاحب رواية «عمارة يعقوبيان» في مقهى «الندوة الثقافيّة»، والذي انتقل لاحقاً إلى مقهى «سوق الحميدية» الشهير».