أيام ما قبل الانتخابات الطالبية في الجامعة الاميركية في بيروت. الطلاب الحريريون محبطون من جراء وجودهم في بيئة معارضة. أما العونيون فيقيمون عرزالاً أسود غطوا جدرانه بأقمشة سود اشبه بتلك التي يقيمها انصار "حزب الله". وفي ساحة "الوست هول" ايضاً منشآت انتخابية اخرى لطلاب "اليسار بلا حدود"، و"حركة الشعب" المناصرة للنائب نجاح واكيم، و"كيوسك" للحزب السوري القومي الاجتماعي وكيوسك آخر لطلاب مستقلين. أصوات موسيقى مختلفة تنبعث من أكشاك اللوائح فتتداخل موسيقى الروك، مع أناشيد المقاومة المنبعثة من كشك "حزب الله"، وبين جهتي المتاريس الانتخابية يعبر طلاب أطلقوا شعرهم وزيّنوا المساحات المختلفة التي تظهر من اجسادهم بأقراط معدنية ثقبوا من أجلها ألسنتهم وبطونهم وأنوفهم. أما آذانهم فقد طرزها بعضهم بعشرات من الاقراط. ولشدة حرارة اليوم الذي يسبق الانتخابات الطالبية في الجامعة، تحسب انه كرمس العيد، وقد انتقل الى الجامعة. الطلاب فرحون، وهم وإن كانت شعاراتهم متوترة ومحتجة وداعية الى التصدي والتحرير والتغيير، فان ما يعيشونه من غبطة وحركة وغناء واحتفال ينافي ما يقولونه في قصاصاتهم وشعاراتهم، التي قد تصح خارج الجامعة. اما داخلها فيبدو ان الحرية تصل الى أقصاها. فالطلاب العونيون أقاموا في "عرزالهم" معرضاً للصور التي التقطت في لحظات اضطهادهم كما يقولون، ايام منع مقابلة العماد ميشال عون التلفزيونية العام الماضي. وأدخل طلاب "حركة الشعب" سقالات حديد عرضوا عليها صوراً ومقالات وشعارات. وإدخال هذه السقالات مخالف لقرار ادارة الجامعة منع ادخال أدوات واستعمالها في الانتخابات الطالبية. الحرية الى أقصاها في الجامعة الاميركية وكذلك اللهو والهذر. وربما العلم ايضاً. ومن يريد ان يقول شيئاً فله ما يريد ضمن قوانين فضفاضة. قبل الانتخابات بيوم، الجميع منشغل في حركة يظهر واضحاً انها غير اعتيادية. الطلاب يذهبون ويجيئون ويتحدثون عبر الهاتف الخليوي، ويوزّعون بيانات باللغتين الانكليزية والعربية. وفتيات أعددن أشكالهن لمثل هذه المناسبة وشبان جعلوا من تجمعهم وغنائهم ولائم انتخابية. قبلان فرنجية من "حركة الشعب" يقف عند مدخل الجامعة امام سيارته الپ"رانج روفر" السوداء ويتحدث عبر الخليوي، محركاً لمحدثه كل جسمه، فيما صديقه الجالس داخل السيارة يزوّده أوراقاً ولوائح. اما ابن عمه سامر سمير فرنجية، وهو من تيار "يسار بلا حدود" فيجلس في كشك تياره ويتحدث مع زملائه الذين مازحه واحد منهم قائلاً "تجارب والدك في الانتخابات غير مشجعة، ويجب البحث في وسائل جديدة للنجاح". وائل نورالدين طالب في الجامعة اللبنانية، لكنه جاء الى الاميركية للاطلاع على سير الانتخابات، لا يعجبه تعامل القوى الطالبية مع بعضها البعض في الجامعة الاميركية، يقول "انهم ليسوا ديموقراطيين، انهم ليبراليون". وطبعاً الليبرالية رذيلة في عرف طالب شيوعي. طلاب ال "Green-Oval" وهي ساحة خضراء تتجمع فيها الطالبات والطلاب الضجرون من السياسة والشأن العام، لا يَنتخبون ولا يُنتخبون. وهم في النهار الذي سبق الانتخاب، كما في نهار الانتخاب نفسه، ظلّوا جالسين وممددين شباناً وفتيات في أنحاء الساحة الخضراء، مشعلين سجائرهم، ونافثين دخانها في اتجاه ساحة "الوست هول" حيث الحماسة الانتخابية. انهم أقل اعتناء من الآخرين بمظاهرهم، اذ اعتبرنا ان الاعتناء هو ترتيب للملابس والألوان، وتنسيق الشعر. وهم ايضاً أقل اكتراثاً لمحيطهم وبيئتهم. ويطلق عليهم زملاؤهم اسم جماعة "What's Cooking" أي "ماذا طبختم اليوم؟". وبين هؤلاء الطلاب فريق موسيقي قال احد اعضائه "انه كان ينوي الترشح الى هذه الانتخابات البغيضة، لكنه عدل عن ذلك، لانه اكتشف ان لا مكان للموسيقى وسط هذه المجموعة اللاهثة الى التصدر. لا شك في ان حضور "حزب الله" في الجامعة الاميركية في بيروت يتراجع سنة بعد اخرى. فهو قبل سنوات كان الجهة الوحيدة فيها، وكان لطلابه مكتب وارقام هواتف ومسؤولون، لكنه بعد حوادث حصلت بين عناصره والطلاب، وادارة الجامعة، بدأ بالتراجع. ويعزو ناشطون في الجامعة تراجعه الى أسباب عدة منها ان اجراءات اتخذتها ادارة الجامعة ضيقت فيها على الطلاب "الحزب اللهيين" وحالت دون تكاثرهم فيها، ومنها ايضاً ان الكثيرين من هؤلاء الطلاب كانوا يستفيدون من المنح الدراسية التي توقفت المؤسسات التربوية عن منحها، ما حال دون دخول طلاب جدد من بيئات فقيرة الى الجامعة، ومن الاسباب ايضاً انتهاء الحرب ودخول الطلاب في نمط حياة وعلاقات مختلفة عن تلك التي كانت اثناءها. وأمّنت المسافة الزمنية التي تفصل الطلاب عن الحرب انتقالاً الى أوضاع جديدة. ومن معاني انكفاء "حزب الله" عن الجامعة اقتصار شعاراته الانتخابية الحالية فيها على موضوع المقاومة ودعمها، أما في السابق فلطالما رفع شعارات داعية الى الغاء المناسبات التي يختلط فيها الشبان والشابات في الجامعة، والى تحديد ايام للفتيات واخرى للشباب للمجيء الى مسبح الجامعة. واذا كان مشهد الازدحام أمام أكشاك القوى ومكاتبها الانتخابية دليلاً الى مدى قوة هذه القوى وضعفها فإن كشك "حزب الله" هو الأقل ازدحاماً هذا العام. التيار العوني قوة راجحة في الجامعة الاميركية، واضحة ومحددة ويمكن قياسها، فهو متفوق في كلية الهندسة، حيث معظم الطلاب مسيحيون. وهو على رغم نصبه عرزاله الاسود حداداً على الحرية قبالة الوست هول، فإن من الواضح ان ناشطيه غير مندمجين في الكتلة الشبابية المتحركة والمتدافعة أمام المبنى. انهم لا يتكلمون مع الصحافة إلا بإذن، ويبدو ان انضباطهم هذا ليس تقليداً طالبياً. معظمهم في كلية الهندسة، ولهذا يأتون الى الجامعة من جهة البحر فيوقفون سياراتهم على كورنيش المنارة، ثم يعودون اليها مساء، مع ما يعني ذلك من عدم اضطرارهم الى العبور بين الكليات والساحات الاخرى حيث يلتقي الطلاب ويختلطون. الطالب النموذج المنتمي الى "حركة الشعب" المؤيدة للنائب نجاح واكيم، هو ذلك المحتفظ أو المنتقلة اليه بسبب من واكيميته، ملامح ناصرية عتيقة، حاول وهو الحديث العهد في السياسة والحياة، ان يوظفها في اعتراضه على الحكومة والدولة، وأيضاً في ثيابه وطريقة مشيه وكلامه. الواكيميون هم الرحبانيون الجدد والنسبة هنا الى زياد الرحباني لا الى الاخوين رحباني. فموسيقى زياد وأغانيه هي اناشيدهم ولحيته ولكنته هي نموذجهم، انهم اكثر تطرفاً في معارضتهم من الطلاب اليساريين، وهم لاختلاط الازمنة والافكار في اذهانهم، حاولوا توليف شعارهم الانتخابي من حقبات وأفكار مختلفة فجاء على الشكل التالي "في زمن لا ينتمي الى الداروينية، في زمن لا يضيع بالغيبية، نحن شعب لا يؤمن بالمستحيل... أين الزواج المدني؟". القوميون السوريون المرشحون الى الانتخابات الطالبية في الجامعة الأميركية، هم احفاد وأبناء لمؤسسي الحزب وقيادييه. حفيد زعيم الحزب أنطون سعادة وابنة النائب القومي مروان فارس وأبناء آخرون لقوميين غير معروفين، جاؤوا الى الجامعة قوميين، واستمروا فيها قوميين ايضاً، وهم لشدة قوميتهم رفعوا شعاراً يعلنون فيه عدم اهتمامهم بأن يفهمهم أحد "أفهمونا أم اساؤوا فهمنا، سنعمل للحياة". لم يحسم اعضاء مجموعة "يسار بلا حدود" في الجامعة الأميركية مدى قربهم او بعدهم عن الحزب الشيوعي، ولهذا فهم غير مفهومين من طلاب كثر. "من هم هؤلاء؟ وماذا يريدون؟" هكذا تردد طالبة في الجامعة عند سؤالها عن رأيها فيهم. انهم مرشحون بكثافة هذا العام. وهم مترددون كما هي حالهم مع الحزب الشيوعي، في مواقفهم من الامور والاحداث. وهم متسائلون اكثر مما يحملون اجوبة. اما الطرف الطالبي الجديد هذا العام فهم اعضاء النادي البيئي في الجامعة المدعومون من ادارتها، اذ اعلن مدير الجامعة قبل اسابيع تسجيل عضويته في ناديهم. وتشجع الادارة نشاطاتهم بصفتهم طلاباً بعيدين عن السياسة. البيئيون في الجامعة الأميركية يعتبرون ان السياسة خربت البيئة في لبنان، في حين اعتبر طلاب آخرون اثناء نقاشهم مع جماعة البيئة، ان لا بيئة من دون سياسة. قليلون هم مرشحو تيار "المستقبل" المؤيد لرئيس الحكومة رفيق الحريري، وهم عاتبون على زملائهم في التيارات الاخرى "لزجهم في تنافس بين مؤيد للحكومة ومعارض لها". وحذروا من الانقياد وراء شعارات خادعة. ويرجح الناشطون الطالبيون تراجع نفوذ "طلاب المستقبل" هذا العام الى انخفاض عدد المنح الدراسية التي كانت تعطيها مؤسسة الحريري للطلاب. من الواضح ان تفككاً اصاب قوى الاستقطاب الطالبي في الجامعة الاميركية، لمصلحة طموحات وصور اكثر فردية. والضعف الذي اصاب قوى كانت جاذبة، ك"حزب الله" والحريري، لم يكن لمصلحة قوى جديدة، انما جذبتهم في الغالب نزوعات اخرى، كالبيئة والموسيقى، وان تكن التيارات الجديدة ك"يسار بلا حدود"، جذبت اليها بعضاً من الطلاب، ولكن لا يبدو ان لهذا الاستقطاب افقاً ووظيفة، هذا باستثناء العونيين الذين ما زال في حوزتهم جاذبان هما: مسيحيتهم في المنطقة الغربية لبيروت، وقمعهم الذي سبق ان حرّك طلاب الجامعات في لبنان العام الفائت