إن كل خطوة من أجل السلام في الشرق الاوسط هي أيضاً خطوة على طريق الاستقرار والتنمية والديموقراطية. فقيم المجتمع المدني التي هي العمود الفقري للديمرقراطية، هي قيم ادارة الاختلاف والتناقض والصراع ادارة سلمية. وقد تزامن توقيع مذكرة التفاهم الاخيرة بين الفلسطينيين وإسرائيل في منتجع "واي بلانتيشن" قرب واشنطن مع الذكرى العشرين لتوقيع اتفاقيتي كامب ديفيد في خريف 1978. ولا يبعد منتجع كامب ديفيد إلا عدة اميال من منتجع واي بلانتيشن، في ولاية ميريلاند نفسها. وعلى رغم ان عقدين يفصلان بين الحدثين إلا أن نفس الدراما والترقب، وتوقع الفشل والاحباط، والتدخل المكثف للرئيس الاميركي ومساومات الدقائق الاخيرة كانت هي هي تقريباً في المناسبتين، على رغم تغير اطراف التفاوض واشخاص المتفاوضين. وقد تصادف وجودي على بُعد اميال قليلة من موقعي دراما كامب ديفيد وواي بلانتيشن، اثناء مفاوضات الساعات الاخيرة في هذا الحدث الاخير، فقد نظمت اللجنة الاستشارية لكرسي الرئيس انور السادات في جامعة ميريلاند ندوة علمية ومؤتمراً حاشداً لمناسبة الذكرى العشرين لكامب ديفيد، وترأست السيدة جيهان السادات تلك اللجنة الاستشارية في جامعة ميريلاند، كما ان عالم السياسة الفلسطيني النابه الدكتور شبلي تلحمي، هو الذي يقوم بأعمال الامانة العامة للجنة، وفي الوقت نفسه فهو اول من شغل، ولا يزال، كرسي الرئيس انور السادات للسلام والتنمية في تلك الجامعة العريقة. كان شهر تشرين الاول اكتوبر 1998 مفعماً بالذكريات الماضية والاحداث المعاصرة، والتي تدور كلها حول الصراع العربي- الاسرائيلي، إذ شهد ذلك الشهر احتفالات حاشدة في مصر لمناسبة اليوبيل الفضي لحرب 1973 والتي ردت لمصر وللعرب الكرامة، بعد الهزيمة المروعة في حزيران يونيو 1967. وشهد الاسبوع الثالث من الشهر نفسه ندوات ومؤتمرات عدة لمناسبة مرور عشرين عاماً على كامب ديفيد من ناحية، وتوقيع الاتفاق الجديد بين ياسر عرفات وبنيامين نتانياهو من ناحية اخرى، والاتفاق الاخير هو تأكيد وتفصيل لاتفاق اوسلو عام 1993، والذي تعثر في التطبيق مع وصول اليمين الاسرائيلي بقيادة حزب الليكود الى الحكم في اسرائيل في حزيران يونيو 1996. المهم ان الغائب الحاضر طوال شهر تشرين الاول 1998 كان الرئيس المصري الراحل محمد انور السادات، فهو الذي تجاسر وقاد مصر والعرب في حرب 1973، وهو الذي تجاسر وأخذ مبادرة السلام مع اسرائيل 1977، وهو الذي تجاسر واستمر في التفاوض معها في كامب ديفيد 1978. وهو الذي تجاسر ووقع معها اول معاهدة صلح عربية مصرية - اسرائيلية عام 1978، ولم ينس المتحدثون في الندوة التي نظمتها جامعة ميريلاند، او في المؤتمر الحاشد الذي اعقب الندوة في الجامعة نفسها، والذي تحدث فيه الرئيس الاميركي السابق جيمي كارتر، لم ينس هؤلاء جميعاً انه لولا شجاعة انور السادات وجسارته في كل هذه المبادرات لما كان اتفاق واي بلانتيشن بين عرفات ونتانياهو عام 1998. وفي الندوة التي ترأسها الدكتور شبلي تلحمي، اعترف الاساتذة والخبراء الاسرائيليون بأنهم وأجهزة بلادهم، بما فيها جهاز مخابراتهم "الموساد"، اخطأوا تماماً في قراءة الرئيس السادات، ليس فقط في ما يتعلق بقرار الحرب، وانما أيضاً في ما يتعلق بمبادرة السلام، واعترفوا بأن المؤسسة الاسرائيلية الحاكمة لم تصدق مبادرة السلام الا بعد هبوط السادات والوفد المرافق له في مطار تل ابيب بدقائق عدة، إذ كان هناك شبه اجماع في دوائر الاستخبارات الاسرائيلية بأن السادات قد يخدعهم مرة اخرى يوم اعلن قدومه الى اسرائيل، وان طائرته قد تحمل كوماندوز فدائيين مصريين، يندفعون من باب الطائرة المصرية بمجرد هبوطها في تل ابيب، ويحصدون بمدافعهم الرشاشة وقنابلهم المدمرة كل زعماء اسرائيل المحتشدين في ارض مطار تل ابيب لاستقبال السادات. وكنت سمعت هذه القصة منذ سنوات عدة، ولكنني اعتبرتها من الاساطير العديدة التي خلقها الخيال الشعبي لدى الجانبين العربي أو الاسرائيلي، ولكنني حينما سمعتها من خبراء اسرائيليين في ندوة علمية وفي اوراق موثقة، ادركت مجدداً الاهمية البالغة لمبادرات الرئيس السادات في الحرب والسلام، وكم سيظل العرب والمصريون يبخسون الرجل حقه، ولا يقدرون عظمة قراراته ونظرته الثاقبة للأمور. وعمق من هذه المشاعر والخواطر والذكريات رؤيتي السيدة جيهان السادات لمناسبة الذكرى الخامسة والعشرين لحرب تشرين الاول والذكرى العشرين لتوقيع كامب ديفيد. ولهذه السيدة الفاضلة في نفسي مشاعر مفعمة، إذ جرى آخر لقاء لي بها يوم 31 آب اغسطس 1981، في استراحة الرئاسة في منطقة المعمورة في الاسكندرية، وكانت هي التي رتبت لي لقاءً مع الرئيس الراحل في ذلك اليوم، استمر لساعات عدة وبحضور ثلاثتنا فقط من الثانية عشرة ظهراً الى الثالثة مساءً، وكان لقاء عاصفاً ثار عليّ فيه الرئيس السادات مرات عدة، وكانت هي التي تهدئ من ثورته وتهدئ من خاطري وتطلب الاستمرار في الحوار. وكان من الواضح ان السيدة جيهان كانت تدرك ان البلاد تمر بأزمة خانقة، وان الرئيس في حاجة الى ان يسمع صوتاً مستقلاً من خارج المؤسسة الحاكمة. ولم التق السيدة جيهان السادات منذ يوم 31 آب 1981 الا يوم الجمعة 23 تشرين الاول 1998. مع توقيع الاتفاق الفلسطيني - الاسرائيلي في البيت الابيض، سألتني السيدة جيهان السادات: هل كنت تتصور يوم التقينا الرئيس الراحل في استراحة الاسكندرية اننا سنعيش لنرى مثل هذه اللحظة؟ وكانت إجابتي فورية: "لا، لم اتصور ذلك ابداً منذ سبعة عشر عاماً"، وتمتمت لنفسي بصوت مرتفع: "ولكننا تعلمنا وما زلنا نتعلم ان مبادرات القادة العظام تظل تلد من التداعيات والنتائج ما لا تتصوره او تتخيله عقول المواطنين العاديين من أمثالنا". وماذا عما يمكن ان يقال عن هذه الاتفاقات الجزئية ذات العائد الزهيد؟ كان الرئيس الراحل يقول دائماً للفلسطينيين بمناسبة أحد بروتوكولات كامب ديفيد الخاصة بالقضية الفلسطينية: "لقد خسر العرب فلسطين بوصة بوصة... وإذا كان العرب سيستردون اي شيء من فلسطين فإنه سيكون بالطريقة نفسها: بوصة. بوصة". كان شهر تشرين الاول بحق شهر الذكريات والانجازات، الماضي والحاضر: من التحرير الى التعمير في مصر، ومن كامب ديفيد الى واي بلانتيشن على الجانب الآخر من المحيط. وفي قلب هذا وذاك كان أنور السادات بكل قراراته الخلافية وبكل مفاجآته الاقليمية وانجازاته الوطنية والقومية والعالمية. * مدير مركز ابن خلدون الانمائي - القاهرة.