عندما أصدر تيد هيوز 1930-1998 كتابه الأخير "رسائل عيد الميلاد" في مطلع العام الحالي، لم يكن أحد يتوقع حدثاً بهذه الجسامة، له هذا الوقع المثير، وبهذه الصراحة في كشف أسرار علاقته بسيلفيا بلاث، خصوصا ان هيوز عاش سنواته الأخيرة في عزلة تكاد تكون شبه كاملة، مصرّاً على الصمت في كل ما يتعلق بحياته، وتفاصيلها الحميمة. ولم يسبق لشاعر انكليزي آخر ان هز عالم الأدب بهذه القوة وبهذا الحس "الفضائحي" منذ ان نشر اللورد بايرون ملحمته الشهيرة "تشيلد هارولد"، في سنة 1812 . هنا في "رسائل عيد الميلاد"، حقق هيوز ما سمّاه "بالعاطفة التي تبلغ حداً من التوتر يفوق الاحتمال" في مقدمته ل "حكايات من أوفيد" وهي صياغة جديدة لكتاب أوفيد الشهير "التحولات". وكان هيوز قد أصدره قبل "رسائل عيد الميلاد" بقليل، كما نشر قبله دراسة تصوفية ضخمة تستقصي أسرار عالم شكسبير الشعري بعنوان "شكسبير وربة الكينونة الكاملة". وكل هذه الأعمال أنجزها هيوز على مدى السنوات الأخيرة من عمره، في دفق متواصل هائل من العطاء كأنه كان يحس باقتراب النهاية. استغرقت كتابة "رسائل عيد الميلاد" أكثر من ربع قرن، وصبّ هيوز كلّ ما جمعه في كتبه المبكرة من خبرة بالطبيعة وتجلياتها، وباللغة الملغزة وما تستطيع ان توحي به من أبعاد، في هذا الكتاب، الذي يعتبر بحق تحفته المتكاملة، وتتويجاً لكل ما سبقه من تجارب انسانية وشعرية. "يعيش" الشاعر كل شيء مرة أخرى: من أول لقائه بسيلفيا بلاث حتى موتها، مرورا بالرحلات التي قاما بها في كل من فرنسا واسبانيا واميركا، والزيارات الى "شارت" ومرتفعات وذرينغ، واللحظات الحميمة والمرعبة التي عاشاها معاً سواء في الواقع او الحلم. هنا، في هذا الكتاب، تتواشج حياتهما في نسيج واحد، و "يتقمص" هيوز حبيبته باللغة الى ما وراء الموت. وقد يأتي ذلك تحقيقاً لما كانت سيلفيا بلاث قد روته في قصيدة لها، موجهة الى هيوز، بعنوان "هدية عيد الميلاد" و"الهدية"، هنا، كما هو واضح، ما هي سوى الموت: اعرف لماذا لا تريد ان تعطيني إياها انك خائف. فالعالم سينفجر بصرخة، ورأسك معه، مزيناً، مختوماً، كدرع عتيق اعجوبةً لأحفادك. لا تخف، فالأمر ليس هكذا. في هذه القصيدة الغريبة التي تنكر فيها بلاث نيّتها القاتلة مع انها توحي بها، ليس الهدف المعلن تيد هيوز الشخص وحده فحسب، بل تيد هيوز الشاعر أيضاً. فهي، حتى ما وراء القبر، كانت تريد ان تستحوذ على حياته ومصيره. أن تكون البؤرة التي يدور حولها شعره وكيانه. وهكذا كان. انه نشيد مطوّل ينقذ كل ما كانته بلاث من النسيان، تفاصيل حياتها، واشياءها الحميمة، كلماتها وأقوالها، من "شجرة الطقّوس" وهي قصيدة لها بهذا العنوان الى "آرييل" ديوانها الأخير الذي أسمته باسم جوادها المفضل وشخصية في "العاصفة" لشكسبير، مرضها وجنونها ومعالجتها بالكهرباء والألكترودات والذي كتبت عنه روايتها "قاروة الجرس" وعلاقتها المدمرة بأبيها "أوتو" الذي يتحول، في قصيدة "حكاية خرافية"، الى غول يأتيها كل ليلة ليأخذها الى هاويته. ويطغى ظل شكسبير على "رسائل عيد الميلاد" حيث نجد أصداء كثيرة من مسرحيته "العاصفة". ففي قصيدة عنوانها "سيتيبوس" يتساءل الشاعر: "من يمكنها ان تلعب دور ميراندا؟" ويجيب: "أنت وحدك. وفرديناند- أنا وحدي". ومع ان هيوز كان يتخذ الاسلوب المبطن والتعبير الرامز الشفاف في تعامله مع هذه الحكاية الشائكة التي تحلقت حياته حولها، فانه هنا، في هذا الكتاب، يكتب عن قصته الشخصية وحبه لبلاث بشكل صريح ومباشر. وفي قصائده هذه، عاد الى شكسبير وخصوصاً "العاصفة" حيث جسّد صورته وصورة بلاث في دور عاشقين يسيطر عليهما بروسبيرو، والد ميراندا، عن طريق السحر. وكانت هذه الحبكة الشكسبيرية ملائمة بشكل خاص لموضوعة هيوز، أي حبه لبلاث وحبها له، وشبح الأب الذي ظلّ يلاحقها ويسكن شعرها حتى النهاية، كما في قصيدتها المشهورة "دادي" أبي حيث يتحول الأب باسمه الألماني "أوتو" الى نازيّ. ويمكن لنا ان نرى "العاصفة" كعمل مواز ل "رسائل عيد الميلاد" من زاوية أخرى أيضاً، ففي الفصل الأخير من المسرحية يطلّق بروسبيرو السحر، ويكسر عصاه السحرية، ويلقي بكتابه الى البحر. وكما ان شكسبير، في هذا العمل الذي يعتبر آخر ما كتبه أيضاً، يصفّي حساباته مع الحياة ويعقد صلحه مع العالم، فان تيد هيوز أفرغ كوابيسه المزمنة في كتابه الأخير هذا، على شكل قصائد متوالية هي، في الوقت نفسه، شهادة شاعر عن عصره وملحمة عاشق مذنب كفّر عن ذنبه بأنبل وأقوى ما يكون، عن طريق الكلمات. قصائد من "رسائل عيد الميلاد" حكاية خرافية تسعة وأربعون كان رقمك السحري. تسعة وأربعون هذا. تسعة وأربعون ذاك. ثمانية وأربعون باباً كان يمكن فتحها في قصرك الشاهق. ما إن كنت تذهبين، كل ليلة حتى تكون لي ثماني وأربعون غرفة أختارُ بينها. لكن التاسعة والأربعين - كنت تحتفظين بمفتاحها لنفسك. سنفتحُ تلك، معاً، ذات يوم. كنت تنطلقين، بلُهْبة شعرك المشتعلة لتقفزي الى الهاوية. كلّ ليلة. وكان عشيقك الغول الذي يتناقَهُ طول النهار في جوف الموت، ينتظرك في مهْواهُ تحت النجوم الواخزة. وكان لي ثمانية وأربعون مفتاحاً، باباً، غرفةً، لألعب بها. غولك المعبّأ في هيكل واحد من ال÷ودو، كان زبدةَ كلّ عشّاقك السابقين، لم تخبري حتى دفتر يومياتك السرّي كم كانوا، من كانوا، أين، متى. واحدٌ فقط كان يتوهج مثل برهان بعيداً في الليل. لكنني لم أنظر أبداً، لم أرَ أبداً صورة شبهه هناك، تشتعلُ في دموعك مثل شيء مكوَّن من قارّ. مثل المصباح الليليّ لطفل نائم، كان يواسي كونكِ. وفي الأثناء، كان ذلك الغول أكثرَ من كافٍ كأنك كنت في كلّ ليلة تموتين لتكوني معه، كأنك كنت تطيرين الى أحضان الموت. هكذا كانت لياليك. في نهاراتك كنت تصغين اليّ وعلى ثغرك ابتسامة أسردُ عليك أعاجيبَ أحدى الغرفات الثماني والأربعين. كانت سعادتك تنعّم السرير. حكايةٌ خرافيّة؟ بلى. حتى يوم أن صرخت في نومك لا، لم أكن أنا، كما عنَّ لكِ. بل أنت. صرخت علّة حبّك لذلك الغول، ضراعتك المعْوِلة. بشَعرٍ جلّدهُ الصقيع، سمعتُها تصدّي عبر أروقة قصرنا كلّها - عالياً بين النسور. حتى سمعتها تضرب على الباب التاسع والأربعين كما قلبي على ضلوعي. صوتٌ راعب. كان يضربُ على ذلك الباب مثل قلبي الذي يجاهدُ أن يخرج من جسدي. في الليلة الأولى التالية - بعد وثوبك لكي تجدي ثانيةً تلكما الذراعين المشرعتين نحوك من الموت - وجدتُ ذلك الباب. فتحتُ الباب التاسع والأربعين وقلبي يوجعُ أضلاعي بسُويقة عشبة. لم تعرفي أبداً أيّ مفتاحٍ نافذٍ وجدتُ في محض عشبة. ودخلتُ. الغرفةُ التاسعة والأربعون هاجت وماجت بزمجرة الغول إذ اخترق الجدار وغاص في هاويته. لمحتهُ بينما أتعثر بجثّتكِ، وسقطتُ معهُ في هاويته. حياة الحلم كأنك كنت تهبطين في نومك كل ليلة الى قبر أبيك تبدين خائفةً من أن تنظري، أو أن تتذكّري ما رأيته، في الصباح التالي. وعندما تتذكّرين، فأحلامك عن بحرٍ محتشد بالجثث، فظائع معسكرات الموت، مذابح جماعيّة. كان يبدو، أن نومك ضريحٌ دامٍ. ورفاته المقدّس، ساقُ أبيك المبتورة، المنخورة بالغنغرينة. لا عجب أنك كنت ترهبين النوم. لا عجب انك كنت تستيقظين قائلةً: "لا أحلام". أيّة طقوس كانت تُتْلى في ذلك القدّاس الليليّ، ذلك المجْمع السريّ حيث كنت أنت الكاهنة؟ هل كانت تلك القصائد حطاماً ممّا أنقذتِهِ؟ كانت يقظة نهارك أمناً منهوباً حاولت ان تتشبّثي به - غير عارفة ما أرعبك أو من أين يتبعك شِعركِ بساقيه اللزجتين بالدم. في كل ليلة كنت أنوّمك، أهدهدك بالهدوء بالشجاعة، بالفهم، بالسكينة. هل أعانَكِ ذلك؟ في كلّ ليلة كنت تهبطين ثانيةً الى سرداب المعبد السرّي ذلك الكهف الخاص، الأوّلي تحت القبّة العمومية لعبادة الأب. كنت طوال الليل تُطلّين غير واعيةٍ على الصدْع حيث تستنشقين النبوءة التي لا تنطق إلا بما هو مختومٌ من النتائج. أعضاءٌ حقيقية تُبتر، دخانُ محرقة المستشفى، شحاذون بأطراف مجدوعةٍ في كرنفال، غرفة الغاز والفرن لحرب الكاميرا- كلّ هذا كان البنيةَ التشريحيّة لإله نومك بعينيه الزرقاوين- والألكترودات الساهرة في صَدغَيكِ تهيّيءُ له "وليمة التكفير". ترجمة: سركون بول