عندما يفتي "علماء طالبان" لزعماء الحركة، والبلاد، بجواز الاستعانة بپ"الدول الكافرة!" لمواجهة ايران لو شنت حرباً على دولتهم، فهم بذلك، وتحت وطأة الحفاظ على المصلحة المختلطة "للدولة والنظام والحركة الحاكمة"، يجيزون التحالف مع "الشياطين" لمواجهة جيش ايران المسلمة الشقيقة! وهم بذلك يرسمون صورة تعج بالتناقضات، ساخرة ومريرة في آن معاً، يطفح المذهبي فيها على الديني، ليظفر السياسي بقصب الحل: مصلحة الدولة أولاً... وأخيراً! وفيما طالبان، الحركة الحاكمة، تعد العدة لمحاكمة بن لادن، انصياعاً لمطالب واشنطن، فإن "العلماء" أنفسهم وقد تداولوا أمر وجود بن لادن على الأرض الافغانية، قدروا ان المصلحة مصلحة الدولة... تقضي بأن يُطبق بن لادن فمه ويتوارى عن أنظار الاعلام كأنما يتظاهر بالموت الحي. بل، مرروا له تهديدات مباشرة بطرده من البلاد، إن خالف أمر "أمير المؤمنين". وهذه الغلبة الكاسحة لفقه مصلحة الدولة تستدعي تأمل الاسلاميين وعميق تفكيرهم. أما خلف حدود طالبان الغربية، فقد كانت طهران هي الأخرى تقدم صورة مماثلة وتفتي لسياسيها بتقديم المصالحة على جبهات ليست أقل سخونة، ولئن انتهت الى اصدار فتوى ناقضة لفتوى الخميني بقتل سلمان رشدي، فإنها عملياً خرقت ما كان يعتبر الى أمد قريب أحد المستحيلات الايديولوجية: ذاك هو نقض قادة ايران سياسياً لما سطره الخميني. وبهذا فأن يتجاوز اصلاحيو ايران الجدد ويتحرروا من وطأة تلك الفتوى، فهم بذلك يلتقطون حبل المصلحة الذي انقطع مع الغرب طيلة عشر سنوات، هي عمر الفتوى السيئة الصيت والتدبير، وان لم تكن هي السبب الأوحد لذلك الانقطاع. واذا تذكرنا بأنه لا شيء دينياً قد حدث على جبهة رشدي الفردية، اذ لم يعلن "توبته" مثلاً، ولم يعتذر عن "آياته الشيطانية"، فإننا نرتطم مرة اخرى بصخرة "مصلحة الدولة" التي تهشم كل الرطانة والشعارات التي لا تقوم سوى بتأخير اشتغال قانون المصلحة وتأخير قطف ثماره. ماذا حصدت ايران من فتوى اعتباطية سوى انها رقت كاتباً متوسط القيمة الأدبية الى مصاف شهداء حرية الكلمة، وساهمت في نشر نص شتائمي قليل الصنعة الأدبية الى مستوى أعظم الروايات. فتاوى طالبان المتطرفة وايران المعتدلة تذكر ايضاً بسلسلة من اشتغال قانون المصلحة في العقد الأخير، أكثرها قرباً كان عدم استطاعة حكومة اربكان مثلاً، على صعيد خارجي واقليمي. ايقاف التعاون التركي - الاسرائيلي، وعدم تمكنها، كمثل آخر، وعلى صعيد اجتماعي، من الابقاء على ألوف العمال المسلمين البلغار ومؤاخاتهم في تركيا خشية زيادة معدلات البطالة الداخلية ومن ثم خسارة الأصوات الانتخابية. كل ذلك انصياعاً للقانون الذي يتبختر هو ذاته بكبرياء بارز في صفوف الحركات الاسلامية ومشروعاتها، متخفياً رغم كل ذلك الكبرياء بأردية دينية، ودعوات غائبة ما تنزل الى أرض الواقع حتى ترتد الى سيفها البتار تقطع به مع كل الشعارات. لكن، ما فائدة كل هذا الكلام في هذا الوقت، والى أين يتجه؟ انه أولاً يقع في مربع دعوة الاسلاميين الى ترشيد الشعار وتفعيل السياسة. وهو ثانياً، وببساطة بالغة، يشير الى ان ما ينبغي التيقن منه، هو ان اشتغال قانون المصلحة السياسية على جبهة الاسلاميين، سواء أكانوا حكومات أم أحزاباً، أم حتى أفراداً، وسواء أكانوا متطرفين أم معتدلين، هو ذات الاشتغال على جبهات غيرهم. وهذا يجب ان يقود الاسلاميين وخصومهم الى فهم اضافي للظاهرة الاسلامية. فعلى خصوم الاسلاميين ان يطمأنوا أولاً الى ان خصمهم الذي يتهمونه بالخروج عن أبجديات السياسة ولا يفهم الواقع انما هو سياسي بامتياز في نهاية المطاف وخياراته سياسية يمكن توقعها، بعيداً عن ثقل الشعارات. اما على جبهة الاسلاميين انفسهم، فثمة ضرورة قصوى الى مزيد تأمل وفهم للقانون الجبروتي للمصلحة. أياً كانت تسميته: فقه المصلحة، أو المصلحة السياسية أو المصالح السياسية أو غير ذلك. لأن ذلك وحده يقود الى محاولة ترويض هذا القانون من داخله، بدل إقحام رأسه في رمال الاماني، ان تخبئته تحت عباءة الشعارات السميكة ما تلبث ان تذوب عند أول اختبار صارم. وبكلمات اخرى، يخدم الاعتراف الابتدائي بسطوة هذا القانون في تقليل الأوهام، وتواضع الطموحات، وتعليم الافراد وعورة طرق الوصول الى الاهداف الكبرى، فيما لا يقدم خيار تجاهل هذا القانون سوى تلاحق خيبات اكمل في أوساط المحزبين، ثم عند جماهيرهم التي اعطتهم التأييد جرياً وراء شعار يفصله عن الواقع سيف شديد الحده اسمه قانون المصلحة. واذا ما قال قائل بأن هذا الاعتراف المطلوب انما هو قائم اصلاً، وهو معنون فقهاً باسم: فقه المصالح المرسلة، فإن ما يشي به الواقع هو ان التطبيق على الأرض لا ينقل فاعلية ذلك الاعتراف ولا يعكس فهماً له وواقعية في الممارسة، إلا في أوقات متأخرة تكون فيها الأزمات قد ضربت في العمق، وكان بالامكان تفادي اكلافها في مراحل ابتدائية. كما ان الاهم من هذا وذاك، هو ان الاقتراب من هذا القانون من داخل بنيته المركبة، بروحية مثاليات الدين والمنظومات القيمية الانسانية الاخرى، هو الاسلوب الأنجع في ترويض وحشيته وحقنه بالاخلاقيات وتهذيب بعض من انفلاتاته، بينما التكبر عليه من علٍ، وإهماله كما لو لم يكن موجوداً، يقود الى التفاجؤ بانفجاراته هنا وهناك مستجيباً لصيرورات السياسة واحداثها، محطماً المثال الذهني المرسوم ومضعفاً صدقيته. * كاتب فلسطيني مقيم في بريطانيا.