مع دخول وقت "الوسم" واقتراب فصل الشتاء، بدأ السعوديون في الاعداد للخروج الى الصحراء للتخييم في فضاءاتها لفترات طويلة تمتد طوال فصلي الشتاء والربيع، او للكشتات البرية المؤقتة، تلبية لحنين قديم يكنّه السعوديون الى الصحراء برحابتها ونقائها وسكونها الجميل وجغرافيتها المتفردة التي تجمع بين الرمال الذهبية والجبال الشامخة والشعاب والرياض التي تزداد جاذبية حينما تكتسي بالخضار والازهار في فصل الربيع. ويتضاعف شوق السعودييين وحنينهم الى الصحراء هذه الايام بعد غياب عنها استمر طوال فصل الصيف الفائت بعدما اضطرتهم حرارة الجو الشديدة الى بيات صيفي كانوا خلاله حبيسي البيوت الأسمنتية ومكيفات التبريد. وهم الآن يتنفسون الصعداء وقد بدت عليهم علامات التحرر من ربقة الصيف والانتشاء بالاجواء الخريفية الاقرب الى البرودة ليلا هذه الاوقات. في مجالسهم هذه الايام يتساءل الجميع عن اخبار المطر: هل فتحت ابواب السماء ليهطل المطر واين؟ والكل يصغي عند طرح هذا السؤال، لأن هطول المطر في هذه الفترة التي تسمى الوسم يعني ابتهاج الارض لتنبت من كل زوج بهيج، وظهور الكماة "الفقع" بإذن الله. الجميع يهمهم هذا الامر وخصوصا اصحاب الابل والغنم الذين اذا سمعوا هذه الايام عن الارض التي وسمت اي اصابها المطر في فترة ذهبوا بإبلهم واغنامهم اليها لضمان مواقع ترعى فيها مما تنبت الارض من عشب وكلأ. وحيث يوجد العشب والربيع يتجه الرعاة وعشاق الصحراء من السعوديين في حملات جماعية يتم الاعداد لها جيداً، بتوفير التجهيزات الاساسية من سيارات ذات دفع رباعي وعجلات مخصصة للصحراء والكثبان الرملية، ومزودة بخزانات وقود اضافية لقطع آلاف الكيلومترات، وتجهيز مساعدة للخروج من حالات التغريز في الرمال او الطين. واكثر السيارات استخداماً هي اليابانية الصنع التي تتحمل وعورة الصحراء ورمالها الكثيفة. ومن الاساسيات اصطحاب خيام كبيرة ومقاومة للعوامل الجوية من امطار وبرودة الشتاء، والتزود بكميات وفيرة من الحطب لايقاد النار العنصر الأهم في هذه المواسم الحميمة، حيث تزدهر اسواق بيع الحطب هذه الايام لتزويد المستهلكين بمؤنة الشتاء المقبل على وجه السرعة. ومن اهم انواع الحطب، "الارطة" ويكثر استهلاكه في الشمال واجزاء من القصيم، و "السمر" ويكثر استهلاكه في المنطقة الوسطى، و"الغضى" وهو نوع نادر يستهلك بكميات محدودة في بعض مناطق الشمال والمنطقة الشرقية حول منطقة الاحساء. اما كل مستلزمات الطبخ فإنها توضع في حاويات مخصصة لها تسمى "المعاميل" تحوي كل ما يحتاجونه لاعداد الكبسة وهي الوجبة السعودية الاشهر في الرحلات البرية، او المندي او الشواء، بالاضافة الى جميع مستلزمات اعداد الشاي والقهوة على الطريقة السعودية الاصيلة التي تعتمد على انتقاء اجود انواع القهوة العربية مثل "الخولانية" او البرية او "الهررية" وتحميصها وتقليبها على نار هادئة، ثم طحنها بوعاء "النجر" ثم تغلى لفترة في دلة خاصة تسمى "المفواح" ثم توضع في دلة اخرى ويضاف اليها الهيل والزعفران الايراني وشيء من القرنفل ثم تقدم للحاضرين. لكن اللافت ان اقتناء السعوديين اثناء رحلاتهم الصحراوية لتقنية التواصل الحديثة يزداد عاما بعد عام. اذ ثمة انواع متقدمة من انظمة تحديد المواقع ومنها جي بي اس3 يتبعها الرحالة في تنقلاتهم من موقع الى اخر في صحارى السعودية دون ان يضلوا الطريق او يفقدوا بعضهم بعضا ، اثناء تشعبات الطرق الصحراوية. واذا ما ارادوا الالتقاء في موقع صحراوي ما فقط يقومون بتبادل ارقام خطوط الطول والعرض للموقع المراد على تلك الاجهزة، واتباع مؤشر السير على شاشاتها الصغيرة والوصول الى الموقع بدقة متناهية، اضافة الى الهواتف النقالة المتصل بعضها بالأقمار الصناعية والاطباق اللاقطة للفضائيات وغيرها. رحلات السعوديين الى الصحراء ثرية بالمشاعر الفياضة والفعاليات الحيوية، تمتزج فيها مشاعر الحنين الى الماضي وتراث الأجداد والعودة الى الأصالة مع حب التجديد ومواكبة التحديث التي تعبر عن نفسها من خلال المقتنيات والإهتمامات والحوارات التي تدور بين الحضور وتخصصاتهم العلمية وتجاربهم خارج حدود الوطن. وتتكشف أثناء هذه الرحلات مشاعر النبل والكرم والإلفة والتعاون بين أعضاء الرحلة، وتتم مزاولة العاب رياضية مختلفة، وممارسة الصيد المقنن، وخلال جلسات السمر التي غالباً ماتكون حول وقدة النار، تسمع النكتة والطرفة والقصة والقصيدة والنقاش الجاد والحاد أحياناً في القضايا المعاصرة، والتعليقات الساخرة، وكل هذا يحصل في جو من الود والصفاء النابع من صحرائهم الجميلة.