المواجهة التي لا تزال قائمة على أشدها بين شيخ الأزهر، الدكتور محمد سيد طنطاوي، ومعارضيه من العلماء، تحمل بين ثناياها مواجهة بين قيمتين: الاولى، وهي التي يستند اليها شيخ الأزهر، هي قيمة الواحدية، اي الرأي الواحد الذي يتسند الى السلطة وهي هنا مقام المشيخة. اما القيمة الثانية وهي التي يستند اليها معارضو شيخ الأزهر، فهي قيمة التعددية، لجهة ان الآراء الاخرى خارج السلطة لها قيمتها المستمدة من الخبرة والتخصص. فبينما رأى الشيخ طنطاوي أن قضية تعديل قانون الأزهر الرقم 103 لسنة 1961، بتقصير مدة الدراسة الثانوية من اربع سنوات الى ثلاث سنوات، وتعديل مناهج الدراسة اللغوية والشرعية بما يتسق وهذا التقصير، هي من صميم اختصاصه وحده والبيروقراطية الأزهرية، رأى معارضوه ان القضية شأن عام يهم الأزهريين جميعاً لا في مصر وحدها وانما في العالم الاسلامي كله، وطالبوا بحقهم في إبداء ارائهم في هذه المسألة التي لا يكفي فيها رأي البيروقراطية الأزهرية وقرار شيخ الأزهر وحدهما. ورأى المعارضون لشيخ الأزهر، انه كان من الواجب عقد مؤتمر عام يجمع متخصصين في مختلف المجالات لاستطلاع آرائهم في تأثير تقصير مدة الدراسة واختصار المناهج اللغوية والشرعية على الخريجين، باعتبار ان الهدف الاساسي من وجود الأزهر هو تخريج علماء شرعيين ووعاظ دينيين ومتخصصين في مجال الفقه واللغة والشريعة. وبينما استند شيخ الأزهر الى مبدأ التخصص مستدلاً بقوله تعالى "فاسألوا أهل الذكر ان كنتم لا تعلمون"، وقال إن من يمثل الرأي الملزم لي في قضية المناهج وتعديلها او مدة الدراسة بالتقصير والتطويل هم المسؤولون في المعاهد الأزهرية اما ما عداهم من اساتذة الجامعة فرأيهم ليس ملزماً، كما ذكر ان المتخصص في النحو لا يجوز له الحديث عن الفقه، واستند معارضوه الى قول الله تعالى "وأمرهم شورى بينهم"، وقوله تعالى "وشاورهم في الأمر"، وذكروا أن سؤال أهل الذكر هو في الفتاوى الدقيقة والغامضة التي لا يعرفها الا أهل التخصص، وهم يرون ان قضية المناهج وحذفها وتعديل مدة الدراسة مشترك عام للازهريين يمكنهم ان يدلوا فيه بآرائهم من مختلف تخصصاتهم وهم يتساءلون: اذا كان الأمر بحيث لا يجوز للمتخصص في النحو أن يتحدث عن مناهج الفقه فلماذا قبل شيخ الأزهر منصب المفتي على رغم ان تخصصه في التفسير ومنصب الافتاء يستوجب متخصصاً في الفقه. وشيخ الأزهر يسعى الى توحيد منهج الفقه وإلغاء المذاهب الفقهية بينما معارضوه يرون ان توحيد مناهج الفقه وإلغاء المذاهب يمثل خطراً على العقلية الأزهرية التي تقوم في اساسها على معرفة الخلاف وتنازع النصوص والادلة للمعاني والآراء الفقهية المختلفة. ويعتز الأزهريون المعارضون بقولهم ان الأزهر هو الذي علّم الدنيا قواعد الاختلاف، فالمذاهب في نظر المعارضين هي مدارس لتعليم كيفية التفكير الفقهي، ويثير البعض مسألة إمكان حذف بعض القضايا المتصلة بالواقع القديم مثل المسائل الفقهية المتصلة بالرق والتديير والمكاتبة لكنهم يؤكدون على ضرورة بقاء المذاهب الفقهية، لأنها تؤكد التنوع والتعدد ومعرفة الآراء المختلفة وتنبذ الرأي الواحد الذي قد يرهق الناس من أمرهم عسراً. وصنّف بعض علماء الإسلام كتاباً في الاختلاف اسماه "رحمة الأمة". واحصى العلماء الكتب التي صُنّفت في علم الاختلاف فجاوزت الستمئة، فتوحيد الفقه وإلغاء المذاهب الفقهية يضر بالعقلية الأزهرية ويفقدها خاصية الترجيح والنظر والاجتهاد والنقد. والشيخ طنطاوي يكرر في تصريحاته ان الأزهر جبهة واحدة وانه لا يعلم شيئاً عما يطلق عليه "جبهة علماء الأزهر"، وهو لا يقصد بوحدة الأزهر موقفه الواحد في القضايا العامة وانما يقصد التزام علمائه رأياًَ واحداً في كل القضايا لا يحيدون عنه ولا يختلفون فيه، وبالطبع فوحدة الرأي هذه تتسق مع ما يذهب اليه شيخ الأزهر. لكن معارضي الشيخ يرون أن وحدة الأزهر لا تتعارض مع تعدد الآراء فيه واختلافها وتدافعها، ويشيرون الى ان معنى "جبهة علماء الأزهر" التي انشئت منذ العام 1946، هو انه رغم تعدد الآراء وتنوعها وتدافعها واختلافها، فإن ذلك لا يحول دون الانتظام في وعاء مؤسسي واحد يتم فرز الآراء من خلاله وتنظيمها والوقوف جبهة واحدة ضد الالحاد والتطرف. وهم يستدلون على ان الوحدة لا تنفي التعدد بقوله تعالى "ولا يزالون مختلفين،... ولذلك خلقهم". "هود الآيات 118، 119" والشيخ طنطاوي يرى ان الجبهة الوحيدة المعبّرة عن رأي الأزهر وجهده هي المؤسسة الرسمية الأزهرية. لكن مخالفيه من العلماء يرون ان المؤسسة الأزهرية الرسمية لا تستقل وحدها، ولا يمكنها القيام بالمهام الملقاة على عاتق الأزهر فالأمة كلها معلّقة بعنقه، ولذا لا بد من مؤسسات أزهرية غير رسمية ذات طابع اهلي تجبر ما يقصّر فيه الأزهر الرسمي فهي مؤسسات تتمّم عمله وتتكامل معه وتقوم بما لا يمكنه القيام به، "وجبهة علماء الأزهر" كمؤسسة أزهرية غير رسمية لا ترى نفسها منافسة للأزهر أو منازعة لإمامه، لكنها تسعى الى التكامل معه، وفق مقاصدها وأهدافها، التي تسعى الى إعزاز الاسلام والمسلمين ورفع شأن الأزهر والأزهريين ورعاية ابناء الأزهر بعد رحيلهم. فالأزهر الرسمي يمثله شيخ الأزهر بحاجة الى جهد، ورأي الأزهر غير الرسمي ممثل في الجمعيات الأهلية الأزهرية ويمثلها بشكل أساسي "جبهة علماء الأزهر". شيخ الأزهر يرى ان الفتوى هي من اختصاص الأزهر بينما يُذكّره معارضوه بأنه ذكر في اول توليه المشيخة ان المرجعية الاساسية للافتاء والتي تلزم المجتهدين الآخرين هي مؤسسة الافتاء التي يتولاها حالياً الدكتور نصر فريد واصل. وهناك ضيق مكتوم في مؤسسة الافتاء الرسمي من تعدي الأزهر عليها في ما يختص بمسألة الافتاء، وكان الشيخ طنطاوي ألغى لجنة الافتاء في الأزهر والتي كان يتولاها الشيخ عطية صقر على رغم انها تعود الى العام 1935 وكان الذي أنشأها في الأزهر الشيخ محمد مصطفى المراغي. وعموماً فإن تعدد المراكز التي تصدر عنها الفتوى هو دليل الحيوية والاجتهاد لأن الفتوى هي مجرد إخبار عن الحكم الشرعي في مسألة ما، ولا تحمل طابع الإلزام للسائل او المستفتى. وهي تختلف في ذلك عن حكم القاضي الذي يحمل معنى الإلزام. وحين التزمت الدولة العثمانية المذهب الحنفي للمرة الاولى في تاريخ الاسلام كمذهب رسمي لها، فإن التزامها له كان في ما يتصل بقضايا النظام العام. اما المسائل المتصلة بالسلوك الفردي في العبادات وغيرها فإنها لم تمنع المجتهدين الآخرين من المذاهب الاخرى، بل ان وجودهم كان شرعياً تنظمه الدولة وتنفق عليه. وأحال الشيخ طنطاوي مسألة جواز صلاة الغائب على قتلى السودان وافغانستان الى مدير الوعظ والإرشاد في الأزهر ولم يحلها الى دار الافتاء. فليس معلوماً على وجه الدقة اي جهة يريد شيخ الأزهر ان يجعلها مرجعية للافتاء، وان كان يستبطن ان يكون الأزهر ممثلاً في شخصه او في واحد من اتباعه كمرجعية للفتوى وهو تكريس لقيم الواحدية. وبخصوص ما يصدر عن المشيخة من سلوك فإن شيخ الأزهر يرى ان سلوكه لا يخضع لمراجعة احد او نقده او التعليق عليه. بينما يرى معارضوه ان مقام المشيخة وسلوك القائم عليها ليس امراً شخصياً يتصل به وحده وانما هو أمر يمس الأزهر وتاريخه ويهم المسلمين جميعاً، ولذا فمن حق العلماء ان ينصحوه بل ينقدوه ان هو خالف إجماع المسلمين او اتى ما يمس موقف الأزهر ولذا، فإنهم انتقدوه حين التقى السفير الاسرائيلي في القاهرة وهاجموه حين التقى الحاخام اسرائيل لاو. وحين أحال طنطاوي مخالفيه على التحقيق فإن هؤلاء استندوا في دفاعهم عن انفسهم الى الإجماع المنعقد في الأزهر على عدم التطبيع مع الصهاينة طالما بقيت ارض فلسطين محتلة. وبينما يرى الشيخ طنطاوي ان وسيلة اسكات معارضيه هي المحاكمة والإحالة الى النائب العام ومجالس التأديب، فإن معارضيه يدعون الى استبعاد ذلك في العلاقة بين علماء الأزهر ويطرحون التحكيم كوسيلة لحل خلافات العلماء، على ان تكون مرجعية المحكّمين هي الشرع لأن الشرع - كما يذهبون - فوق القانون. وهم يقرون انهم اضطروا الى تقديم بلاغات ضد شيخ الأزهر حفظاً لحقوقهم ومجاراة للشيخ خشية ان يقادوا الى السجن. وبلا شك فإن فكرة الإحالة الى التأديب والمحاكمة فيها من قسوة السلطة وروح الواحدية ما يتنافى مع مقام المشيخة التي تمثل جناحاً رحيماً يستظل به علماء الأزهر وشيوخ المسلمين عموماً. وبالرجوع الى الخبرة الاسلامية، سوف نلحظ مفارقة عجيبة، يجب ان تؤخذ في الحسبان في قضية الأزهر. المفارقة هي ان السلطة السياسية نزّاعة، بطبيعتها، الى تكتيل الناس وراء آرائها، وتضيق بالمعارضين حتى ولو ادى ذلك الى استخدام وسائل القهر. اما مؤسسة العلماء والفقهاء فهي نزّاعة، بطبيعتها، الى عدم إلزام الناس برأي واحد لأنها تؤمن ان التعددية الفقهية هي جزء من التفكير الفقهي الاسلامي. فالإمام مالك رفض ان يكون "الموطأ" مرجعاً فقهياً للمسلمين جميعاً. والشافعي ألّف كتابه "خلاف مالك" لما بالغ الناس في اراء امام المدينة وظنوا انه لا يمكن مخالفتها فأراد الشافعي ان يقول للناس ان ما قاله مالك يحتمل الاختلاف معه وهو قول بشر في النهاية ولا عصمة لآرائه. فالمرجعية الفقهية الاسلامية تختلف عن مرجعية السلطة السياسية، اذ ان الاولى ترى الاختلاف حقاً مشروعاً للمجتهدين بل هو واجب عليهم، لذا فإنها هي التي دعت للاجتهاد ودعت لضبط قواعده، والاجتهاد يفرض التعدد بلا ريب. اما المرجعية السياسية فهي نزاعة الى توحيد اراء الناس وراءها وهي ترى المعارضة لها شيئاً كريهاً. والآن فإن الأزهر على رغم انه أصبح جزءاً من مؤسسات الدولة إلا ان تقاليده وتاريخه وممارسات ابنائه وعلمائه وفيّة للتراث الاهلي والمجتمعي التعددي، وسلطته في النهاية هي سلطة معنوية وروحية. فليس معنى كون الأزهر مؤسسة في الدولة، ان يتبنى تقاليدها السلطوية، انما عليه ان يكون وفياً لتراثه الاهلي والفقهي الذي يعلي التعددية والاجتهاد وقبول الرأي المعارض. إن تاريخ الأزهر هو تاريخ التعددية والمعارضة والنقد والتوجيه والتعليم، وجمع شيخه ومعارضيه على كلمة سواء يكون بالعودة ثانية الى التقاليد الاصيلة التي ترفض الواحدية وتدعو بقوة الى التعددية. * كاتب مصري