... هكذا وبينما أفكر فى ركوب الباص الذي توقف أمامي، كنت قد ركبته فعلاً. كان من تلك الباصات التي تتوقف بالقرى في الليل، فيركب مسافرون، ويهبط آخرون. جلست باستسلام فتحرك الباص. كان يخب مهتزئا كجمل عجوز فى صحراء، مظلماً، والمسافرون كانوا نائمين. هكذا تأتي هذه الأوقات التي تشعر فيها بالصفاء وبالرغبة في التفكير، فكرت في ذلك عندما استرخى كل جسدي، وفكرت أيضا أنه من الرائع أن تستقل باصا لا يعرفك فيه أحد، ولأنك فى مكان بعيد فلن يفاجئك شخص، تراه فجأة أمامك فيقطع كل أفكارك ويدمر – بغير قصد – لحظة لا تأتي إلا هكذا فجأة. كانت بجواري فلاحة تضع طرحة على رأسها، تضايقت من رائحتها، أردت أن أنهض، ولكن خيطا غامضا ربطنى بهذه الرائحة، كانت تشبه رائحة الفول الأخضر، مختلطة بقليل أو كثير برائحة الزبد الطازج، بريئة وبدائية، كانت النوافذ محطمة، وهواء الحقول يغمر الباص، فشعرت على الفور بأنني محاط بأجواء طالما أحببتها، وطالما افتقدتها، وفكرت لو أن هناك قمرا يضيء الحقول بذلك البياض النائي والشفيف إذا لاكتمل كل شيء. توقف الباص أمام قرية فتسلل ضوء أعمدة الكهرباء إلى الداخل، استطعت أن أرى طرحتها الخفيفة، كانت خضراء كالحة، وجلبابها أبيض منقوش بزهور حمراء وصفراء. تحرك الباص مرة أخرى فدخل فى ظلمة الطريق المترب. سرحت قليلا، وغفوت متلذذا باهتزاز الباص. عندما فتحت عيني كان كل شيء كما هو، هادئا بدائيا، والركاب نائمين، فعاودت التفكير فى أشياء جميلة، فرحت لأشياء وحزنت لأشياء، ابتسمت لأني كنت غبيا فى أحيان كثيرة، وحيث لا أحد يراني أنّبت نفسى. وعلى نحو غريب، وأنا صامت هكذا أفكر، انتابتنى رغبة فى أن أكون ذلك الرجل البسيط، الفلاح الذى يجلس متربعا فى داره مستندا إلى حائط، مبتسما بوجه أسمر رائق كسحابة، وتمنيت بشدة، تمنيت كحلم أن يرفع أحد النائمين رأسه ويغني موالا ريفيا، أو أن يخرج من جلبابه نايا ويعزف لحنا حزينا يصعد إلى السماء، كنت أتصور دائما أن السماء تجتذب إليها ألحان هذه الآلة، شرط أن تكون حزينة وريفية. انتبهت فجأة إلى أنين خافت بجواري، التفت، كانت الفلاحة تبكي، محاولة أن تكتم صوت البكاء، وكان يهبط ماء غزير من عينيها، شعرت أن بكاءها مرير إلى ما لا يمكن تصوره من مرارة، وفكرت فى أن روح الفلاحة، روحها الخالصة هي التي تبكي. عدت ألتفت أمامي، إلى ظلام الطريق، إلا أن رأسي هذه المرة تحرك محملا بحزن غامض. تركتها تبكي لأنني كنت أعتقد أنه من الرائع أن يبكي المرء، أن يستطيع البكاء هكذا، وأننا ودائما علينا أن نبكي كلما شعرنا برغبة في ذلك، بالبكاء فقط من دون سبب، من دون أي شيء، لكن ذلك قادني إلى تذكر " بيسوا " الشاعر الذي أحبه حين قال " أنا بحاجة إلى الرغبة في البكاء، ولكن لا أعرف طريقة لاستثارة الدموع " وبدأت أفكر في إمكانية تقديس هذا البكاء الذي لا يجيء، يظل مكتوما كقطعة ثلج على موقد لا تنصهر أبدا. لكن الفلاحة انتشلتني من كل هذا، عندما ارتفع صوت بكائها وبتلقائية أدهشتني أمسكت يدها ضاغطا عليها، لم يبد عليها أي ردة فعل، فأبقيت يدي، وحين خفت بكاؤها فكرت في أن آسي – إنه قليلا ما يتذكر الإنسان أن لديه دائما ما يشارك به الآخرين، ثم ولا أعرف ما دفعني إلى ذلك، استدرت ببطء ووضعت يدي على وجهها، فعاد بكاؤها مرة أخرى، حارا فى حدة واندفاع سيف، مكتوماً، تجاهد أن تبقيه مكتوماً، وفجأة لم أشعر إلا بها بين ذراعي وقد أراحت رأسها على كتفي، ملتصقة كطفل خائف، خفت بكاؤها قليلا، فعدت أفكر وأنا أربت على كتفها، أن الحياة تعذبنا على نحو مروع. وبدأت أبكي بدوري، بكاء مريرا. مر وقت طويل، لم أشعر بأي شيء، سوى أن هذه المرأة برائحة الفول الأخضر في ملابسها ورائحة الزبد فى فمها القريب، استطاعت أن تدفعني إلى البكاء، بكاء كنت أحتاجه حتما. تذكرت الحقول حولنا، والهواء الذي يندفع من النافذة، وفكرت أن هذه الفلاحة بإمكانها أن تجعلني أجري .. أجري في الحقول، وفقط أجري، كطفل مبتسم يرتدي جلبابا، أذهب إليها .. أسفل شجرة، فتضحك وتبسط يدها المملوءة بالفول الأخضر، آكل من دون تفكير فى أي شيء، آكل، تضع شايا على نار هادئة لحطب العنب، فأشرب شايا دافئا وله نكهة العنب على الأشجار، حيث تكون السماء دائما زرقاء صافية. والسحاب دائما أبيض رقيقا ككومة قطن، والحقول خضراء، يدفعها الهواء فتتحرك كطرحة خفيفة على رأس فلاحة، وحين تدفعني لأنهض، أقول لها في توسل: أريد أن أبقى .. أبقى، فتأخذني وتتركني لأنام .. هكذا في أحضانها، غارقا في دفء جلباب أبيض بزهور حمراء وصفراء. لكن كل ذلك تهاوى فجأة كسماء من زجاج عالية ورحبة تهاوت على الأرض، فتهاوى كل شيء حين نهضت الفلاحة، هكذا رأيتها تنهض وتتركني، فشعرت بضعف مفاجئ، وحين توقف الباص، أدركت أنها ستهبط، تحركت غائبا، وأفسحت لها مكانا لتمر، بسرعة هبطت، واختفت، وتحرك الباص. بعد كم من الوقت أحسست بالفراغ بجواري، فعاودني البكاء مرة أخرى، أسندت رأسي على المقعد المقابل وفكرت في أن وقتا طويلا سيمر، سنين ربما، حتى ألتقي مصادفة بفلاحة لها رائحة فول أخضر، ولفمها رائحة الزبدة، أبكي على كتفها باندفاع ومرارة، أبكي من جوفي من روحي الخالصة، وأشهق ممسكا يدها في استماتة خالدة، فتشاركني البكاء وتربت على كتفي فى الظلام، وسط مسافرين نائمين، في باص محطم النوافذ، يخب مهتزئا.