تحولت حرب أكتوبر (تشرين الأول) عام 1973، بسبب أهميتها وأهمية المنطقة العربية في الميزان العالمي، إلى مادة دسمة للكثير من البحوث والدراسات العسكرية والسياسية والشهادات التاريخية. وسلطت هذه الدراسات والشهادات الأضواء على جوانب عدة من الحرب، خصوصاً في إطار السياسات الإقليمية والدولية. غير أن ما نشر في هذا الإطار شابته أحياناً النقائص الآتية: 1- توظيف هذا الحدث في الصراعات العربية - العربية التي اندلعت بعد الحرب. وهذه الظاهرة تؤثر تأثيراً كبيراً في فهمنا لحرب أكتوبر لأن المشهد العربي الذي سبق الحرب ورافقها اختلف اختلافاً كبيراً عن المشهد الذي تلاها. فالمشهد الأول اتسم بنمط من العلاقات العادية بين أطراف النظام الإقليمي العربي حتى لو تخلله بعض الصراعات، أما في المشهد الثاني فقد وصلت الصراعات العربية - العربية إلى حد غير مسبوق. وفي ظل هذه التطورات جرى تفكيك مشهد حرب أكتوبر وإعادة إنتاج بعض عناصره كأدوات لتأزيم هذه الصراعات. 2- إغفال طابع رئيسي لحرب أكتوبر يميزها من الحروب العربية - الإسرائيلية الثلاث السابقة ( 1948، 1956، 1967). ففي حين خاضت الدول العربية تلك الحروب كتعبير عن التضامن القومي مع شعب فلسطين، ومن أجل إنقاذ الأرض الفلسطينية من الاحتلال الإسرائيلي، كانت حرب أكتوبر تعبيراً عن الالتزام بالهدفين الوطني المباشر (إزالة آثار العدوان) والقومي البعيد المدى (تحرير فلسطين). توخياً للدقة نقول إن الهدف الوطني المباشر كان هو الحافز الأقوى للحرب، وإن استمرار الاحتلال الإسرائيلي الجولان وسيناء أخرج القضية الفلسطينية من (فلسطينيتها) وأدخل عليها بعداً عربياً ملموساً بعد أن احتلت إسرائيل أراضي دولتين عربيتين رئيستين. 3- إغفال أهمية التحالفات الإقليمية والدولية وتنوعها التي مهدت للحرب ورافقتها. تمثلت قاطرة التحالفات والتنسيقات في الإطار العربي بالمثلث المصري - السعودي - السوري. وقد توسع هذا التنسيق، خصوصاً بعد بداية الحرب بحيث شمل الدول العربية كافة من دون استثناء. وفي الوقت نفسه انتقل التنسيق والتعاون من المستوى العربي إلى المستوى الدولي، إذ شمل الاتحاد السوفياتي السابق والدول الحليفة له وكذلك كتلة عدم الانحياز. بهذه التحالفات خاض العرب معركة متعددة الأبعاد عسكرية - اقتصادية - وسياسية. لم يكن هذا التحرك فريداً من نوعه إذ جرت محاولات للزج بالطاقات العربية كلها في الحروب السابقة، ولكنها لم تصل إلى مستوى ما وصلت إليه في حرب أكتوبر. في حرب أكتوبر بدأ التنسيق العسكري بين مصر وسورية في وقت مبكر نسبياً، فلقد تم الاتفاق بين الرئيسين المصري والسوري على قرار شن الحرب ضد إسرائيل وحدد موعدها قبل أشهر عد من بدئها. وتم تشكيل المجلس المشترك الأعلى المصري - السوري خلال شهر آب (أغسطس) 1973. وترك للمجلس المشترك أن يتابع وأن يعمل على تنفيذ القرارات المتعلقة بالتنسيق بين الدولتين والتحضير للحرب في اجتماعات لاحقة. ونجحت المساعي التنسيقية المصرية - السورية العسكرية في مجالات كثيرة مثل الاتفاق على الوقت الأفضل خلال شهر رمضان لتنفيذ الهجوم، ووضع الترتيبات اللازمة لكي يكون هجوماً مشتركاً بالفعل. كان هذا الترتيب من العوامل التي عززت مواقع المصريين والسوريين في القتال. لقد اعتادت إسرائيل على مواجهة كل جبهة عربية على حدة في الحروب الماضية. أما في حرب أكتوبر، فكان على الإسرائيليين أن يواجهوا الهجوم على الجبهتين. ركزوا قسماً كبيراً من قواهم من أجل تشتيت الهجوم السوري، ولكنهم اضطروا في الوقت نفسه إلى مشاغلة القوات المصرية في الجنوب. وحقق إطار العمل المشترك المصري - السوري نجاحاً أيضاً في التوفيق بين توفير متطلبات الإعداد للحرب، وبين إسدال ستار كثيف من التعمية على نية خوض الحرب ضد قوات الاحتلال. ويخطئ من يظن هنا أن الزعماء الإسرائيليين لم يكونوا على علم بوجود مثل هذه النوايا عند العرب. لقد جاءتهم الأخبار عن نوايا العرب الحربية من مصادر متعددة دولية وإقليمية. ففي أيار (مايو) 1973 أبلغ الزعيم السوفياتي بريجنيف الرئيس الأميركي نيكسون أن العرب ينوون شن حرب ضد إسرائيل إذا استمرت في احتلال أراضي مصر وسورية. كان القصد من ذلك حضّ واشنطن على الضغط على الإسرائيليين حتى ينسحبوا من الأراضي العربية. ولم تكتم القيادتان المصرية والسورية نواياهما في تحرير أراضي البلدين من الاحتلال. ولكن المصريين والسوريين نجحوا في الحفاظ على عنصر المفاجأة لأنهم أغرقوا إسرائيل بما يقارب من 600 إشارة مضللة قبل بدء القتال، كان من بينها إعطاء مئات الإجازات لعسكريين من مختلف الرتب. صدق الإسرائيليون هذه الإيحاءات واعتبروا أن الأخبار حول هجوم مصري - سوري قريب هي نوع من التهويل الذي لا يستند إلى أي أساس، وأنهم في مطلق الأحوال يمتلكون القدرة على السيطرة على الموقف في أي صراع مسلح مع العرب. أما القدرات العربية فكانت عند المسؤولين الإسرائيليين، مثل سفير إسرائيل في واشنطن خلال أكتوبر 73 «لا تتجاوز حد الفرضيات النظرية التي لا تستحق الاهتمام الخاص». لم ينبع الموقف الإسرائيلي من الاستخفاف بالعرب فحسب، وإنما أيضاً من رغبة إسرائيل وأصدقائها وحلفائها الدوليين في إقناع المجتمع الدولي بأن الاحتلال الإسرائيلي بات حالة «عادية» وأمراً ينبغي التعود عليه وعدم إثارة المخاوف بصدده. هكذا كان موقف كيسنجر عندما انعقد اجتماع «لجنة العمل الخاصة» وضمت عدداً من المسؤولين الكبار مثل جون لاف، مساعد الرئيس لشؤون النفط، ووليم كولبي من الاستخبارات الأميركية والجنرال برينت سكوكروفت ووليم كوانت من مجلس الأمن القومي. شكلت اللجنة خلال حرب أكتوبر في واشنطن من أجل متابعة تطور الأوضاع في المنطقة. ولما بلغ اللجنة أن الدول العربية النفطية بقيادة السعودية تنوي ولوج ساحة «الديبلوماسية النفطية» في إطار التنسيق بين الدول العربية، وأن «أوابك»، أي منظمة الدول العربية المصدرة للنفط تتجه إلى اتخاذ قرار بهذا الصدد، حاول كيسنجر التقليل من أهمية تلك الأنباء. أثار هذا النبأ قلقاً بين أعضاء اللجنة نظراً إلى زيادة اعتماد الولاياتالمتحدة على النفط العربي. وعلى رغم أن الدول العربية، بقيادة السعودية، لجأت خلال حرب 1967 إلى استخدام «الديبلوماسية النفطية»، إلا أن الولاياتالمتحدة لم تتأثر بهذه الخطوة آنذاك لأنها طبقت لوقت قصير، ولأن الولاياتالمتحدة كانت تعتمد على النفط الذي تنتجه فضلاً عما تستورده من فنزويلا وإيران وإندونيسيا. بيد أن الأوضاع تغيرت في المرحلة الجديدة، إذ إن استهلاك الولاياتالمتحدة ارتفع بصورة ملموسة، كما بدأت ترشح الأحاديث عن استعداد منظمة «أوبك» التي تضم إيران وفنزويلا، إلى السير مع «أوابك» في «الديبلوماسية النفطية». إزاء هذه المعطيات اتجه المجتمعون إلى بحث إمكانية استخراج وجلب النفط من آلاسكا ولكنهم وجدوا أن هذه الإمكانية لم تكن متوافرة آنذاك. عمد كيسنجر إلى إطفاء مخاوف أعضاء اللجنة من طريق إقناعهم بأن العرب لن يقدموا على المقاطعة النفطية، وبأن وزراء الخارجية العرب الذين اجتمع بهم كانوا وديين للغاية وبعيدين من لغة التهديد. هذا لم يمنع كيسنجر من القول إنه إذا لجأ العرب إلى المقاطعة، فإنه من الضروري أن «نريهم أن الابتزاز لا يفيد». بصرف النظر عن المزيج من الإيحاءات الكيسنجرية المضللة حول الموقف العربي، والإصرار على تسريع إمداد إسرائيل بالأسلحة المتطورة لصد الهجوم العربي، فإن مداولات اللجنة عكست تخوفاً من مضاعفات تمسك العرب ب «ديبلوماسية النفط». وكان لهذا القلق ما يبرره، من وجهة نظر أميركية، إذ إن الدول العربية، إضافة إلى دول «أوبك» الأخرى تمكنت من إحراز نجاح إضافي عبر المقاطعة النفطية. فلقد تضاعف ثمن برميل النفط أربع مرات أي من ثلاثة دولارات (ما يوازي سعر «القاذورات» في شوارع نيويورك، كما قالت مجلة أميركية) إلى 12 دولاراً. لقد حقق التنسيق بين الدول العربية بعض النجاح خلال حرب أكتوبر على الصعيدين العسكري والاقتصادي، ولكن هذا النجاح، على محدوديته، لم يكن ليتحقق لولا الدعم الذي تلقاه العرب من الاتحاد السوفياتي. فعلى رغم الانتقادات التي وجهها الرئيس المصري الراحل أنور السادات إلى موسكو متناولاً فيها «تقصيرها» عن تلبية حاجات مصر التسليحية وإلحاحها على وقف إطلاق النار المبكر، فإن الانطباع العام حتى عند بعض المسؤولين الأميركيين، أن الروس مدوا مصر وسورية بأسلحة متطورة وفاعلة. لقد لعبت هذه الأسلحة الروسية مثل صواريخ أرض - جو SA-9 ودبابات T-62 دوراً مهما في إقامة توازن قوى جديد بين العرب والإسرائيليين بعد حرب أكتوبر، وحدت من قدرة إسرائيل على ابتزاز الدول العربية. لئن كانت أهمية التنسيق بين الدول العربية والتعاون مع الدول الأجنبية الصديقة مع العمل المثابر على كسب الأصدقاء في المجتمع الدولي، هي من دروس حرب أكتوبر المهمة، فإن تحول ذكرى حرب أكتوبر إلى مناسبة لتعميق الشروخ داخل الجسم العربي ولتصعيد الأزمات داخل الأقطار العربية يمثل ظاهرة مؤلمة. إن الجماعات قد تتفق على ضلال، وقد تختلف بسبب حوافز سليمة. ولكن، في الحالات كاف، يمكن العثور على وسيلة لتدبر أمز الخلاف من طريق الوسائل السلمية والشرعية. لقد حاول العرب التوصل إلى إخراج المحتلين ومن طريق الشرعية الدولية بصورة سلمية، ولما لم ينجحوا لجأوا إلى الحرب. نأمل بأن يصل العرب إلى نقيض هذه النتيجة على صعيد الاقتتال الداخلي، فتحسم الصراعات الداخلية سلماً، ومن طريق الحلول الديموقراطية لكي يبذلوا جهداً أكبر في إخراج المحتلين من ديارهم. * كاتب لبناني