تلقى خوزيه ساراماغو نبأ حصوله على جائزة نوبل للأداب وهو في مطار فرانكفورت الألماني، في طريقه الى مقر اقامته في جزيرة "لنتزاروتي". وكان من الطبيعي ان تتنافس وسائل الاعلام الالمانية للحصول منه على احاديث وتصريحات صحافية. واخترنا من مجموعة الحوارات تلك الجانب الذي يتعلق بالشهرة المصاحبة للفوز بأشهر جائزة أدبية في العالم. في آخر رواية لك ذكرت ان الشهرة كالريح تأتي وتروح، ما الذي جعلك تعكس هذا الموضوع؟ - ما كانت أجيء على ذكرها لو لم تكن حقيقة ان الشخصية المركزية التي نطلق عليها اسم البطل ليست أكثر من عرضحالجي كاتب عرائض يشغل نفسه في أوقات الفراغ بجمع مواد اخبارية من الصحف والمجلات حول اشخاص آخرين. ان حصيلته ليست موجهة صوب نشاط خاص أو حرفة خاصة. جميع الناس متساوون لديه، لا فريق بينهم سواء كانوا ممثلين أو رياضيين... وأنا أفترض ان حصيلته تلك ربما تضم حتى الكتّاب. انه شيء مقبول ممكن. لديه درجات شهرة تبدأ من واحد وحتى مئة، خلفها أرقام، ربما تجتاز في أي يوم هذا الصنف الثاني النسبي من الشهرة الى الصنف الأول. ان هذا التقلب ليس تقلباً بالصدفة كما يبدو. في المقام الأول، الشهرة بحد ذاتها ليست أمراً ايجابياً. كثيراً ما يشتهر احد ما لأسباب سلبية. لذا فإن الشهرة لا تعدو اكثر من هذا، أكثر من ان تكون معروفاً. هناك بالطبع معيار. نحن جميعاً معروفون بهذا القدر أو ذاك، حتى لو كان ذلك في الشارع فقط، حيث نقيم أو ضمن دائرة اصدقائنا أو في مقر عملنا حيث يدور الحديث عنا في ما يتعلق بالأشياء الجيدة أو المرض. في ما بعد، ربما يحدث ويشتهر شخص ما على نطاق واسع في مدينته، في بلده في بلدان عدة، في القارة التي ينتمي اليها، أو في جميع انحاء العالم. بيد ان هناك في كل الاحوال ثمة أكثرية من الناس لا تعرف ذلك الشخص المشهور. الشيء الوحيد الايجابي الذي أجده في هذه المسألة، على افتراض انني أدركت درجة معينة من معرفة الجمهور لي، ان الشهرة تعينني على معرفة أناس آخرين. هذه المواجهة مع الناس هل هي التعويض الوحيد للشهرة بين الجمهور؟ - حينما يستلم كاتب رسائل من قرائه، فإنها رسائل معنونة اليه لكنها تتحرك بفعل دوافع أدبية بحتة. ليست في هذه الرسائل مواضيع لا تدور حول الأدب والكتب، بالطبع هذه الرسالة تتحدث عن الكتب التي قرأها اصحاب الرسائل ومواضيع اخرى، الى جانب أنها تتحدث عما يجري في الذهن والامتنان لقراءة الكتاب. وهي في الواقع ليست فقط رسائل من القراء الى المؤلف وانما ايضاً من شخص الى شخص آخر، بينه وبين المؤلف. ذلكم هو التعويض. ضمن هذا السياق يمكن القول ان هناك ثمة شيئاً حسناً في الشهرة. هذا ما يمكن ان يحدث مع الكاتب أو مع شخص يعبر عن أفكار وعواطف واشياء اخرى، لكن هناك شهرة اخرى ينالها الرياضي فيستلم رسائل وطلبات بتوقيع اوتوغرافات. لا أظن بأن أحداً كتب الى هذا الرياضي متحدثاً عن حياته. ثم ان هناك شهرة اخرى مختلفة، وحقيقة وجود شهرة صغيرة - حينما أقول صغيرة فإنما اعني على سبيل المثال شهرتي - ربما هي اكثر ثراء بمنزلتها، بعلاقاتها، بصداقاتها، بقربها الى الناس من شهرة، لنقل، رونالدو الذي هو اكثر شهرة مني أو من أي كاتب آخر في أوروبا واميركا. رونالدو معروف لكل انحاء العالم، لكن ما من أحد في اسبانيا أو البرازيل سيكتب له ويقول: "تصور: ان الهدف الذي سجلته جعلني اعيد النظر بمجرى حياتي، وكل شيء أقوم به، من أحساسيس...". من هنا فإن الشهرة بذاتها لا تخلو من قيمة، ولكن اذا ما حدقت فيها جيداً فإنك سرعان ما تكتشف بأنها مجرد تفاهة ليس إلا. من جانب آخر فإن هذه الشهرة تضيف مسؤوليات اكثر فأكثر. ربما هي لحظة سريعة الزوال، ولكن اذا كان لديك سبب يدعو للاعتقاد بأن ما تقوم به مهم ويعني تقريباً دائرة واسعة من الناس فإن ذلك ربما يعطيك صورة لادخال البهجة الى نفسك، لكنها تضاف الى مسؤولياتك، لأن الناس يقظون لما تقول وتفكر، وأهم من ذلك لما تتصرف لأن المسألة ليست فقط مسألة ما تقول وتعتقد... ان ذلك مجرد كلمات والناس - وضمن هذا الاطار القراء - لا يكتفون بالكلمات. أهي مخدّر إذن؟ - كلا، لا أعتقد ذلك، اذا ما وضعت في حسابك ان كل شيء في هذا العالم نسبي وغير ثابت، أظن بأننا ننظر الى المسألة بجدية كبيرة. إن لك حياة من ستين، سبعين، ثمانين أو ربما مئة سنة. كل هذا لا شيء. لقد كتبت عليك اللعنة بأن تكون لا شيء، اضافة الى انك لعنت بأن تكون كما أنت. كل شيء، اضافة الى انك لعنت بأن تكون كما أنت. كل شيء سيضيع في بحر النسيان. سيختفي كله. كل شيء سيؤول الى نهاية القرون في ما بعد لعدم امتلاكه ايما أهمية أو تقريباً لا أهمية له على الإطلاق. ثم اذا ما فكرت بأن تلك الشهرة الخالدة ستجعل الاجيال القادمة تنطق باسمك وسيستمر الى الأبد ذلك الخلود ويرددون اسمك بعبارات التبجيل والاحترام... فإنك تخدع نفسك، وهذا ما سيكون في الحقيقة هو المخدر. الآن، اذا ما اعتقدت بأن اللحظة حانت للتوقف عن الكتابة على رغم كونك تعيش، وان لا تكتب لأن كل شيء انتهى بالنسبة اليك ولم يعد عندك ما تقوله، وخارج نطاق احترام الذات عليك ان تخرس أو انك حقيقة كان عليك ان تخرس، لكنك لا زلت حتى الآن تكتب وستشعر الى آخر يوم من حياتك بأنك عظيم لأن الناس سيظلون يكيلون لك المديح وهكذا... علينا عندئذ ان نضع في ذهننا ان ذلك لا يستمر، ولعلي سأقول أنني هيأت نفسي ليس فقط من خلال حقيقة معرفتي المسبقة بالمسألة وانما من خلال طبيعتي أنا، لأن أتوقف اعتباراً من يوم غد أو بعد غد أو في يوم ما - لا أدري متى - عما أفعله أو ما سأقوم بفعله لمصلحة الناس وذلك ما سيشار اليه ربما ان شهرة هذا السيد ستختفي، تختفي مثل كثير من الاشياء الأخرى، لكن مسألة أكيدة واحدة ستبقى وهي ان العالم سيستمر في سبيله من دون ان يتأثر بذلك أدنى تأثر. هل تصورت في الماضي حالة شبيهة بما أنت عليه الآن من شهرة واحتفاء؟ - كلا، كلا، كلا على الإطلاق. لقد أمضيت معظم حياتي تقريباً كمواطن متحفظ مع الاصدقاء ومع بعض من يعرفونني، وحتى بعد شروعي بإصدار الكتب كان قرائي لا يتجاوز عددهم بضع دزينات، ولم يكن لدي من طموح غير كتابة عمود في صحيفة ثم جمع المواد وإصدارها في كتاب. صحيح ان الزهو اليسير في رؤية عمل ينشر لي يمنحني بهجة هي من أكثر أنواع البهجة طبيعية، لكن مع ذلك حينما كتبت أربعة أو خمسة أو ستة كتب أو أكثر لم أكن على جانب كبير من الشهرة وأصبحت معتاداً على ذلك. لم أعش قبلاً هذه الحالة، وبقيت هكذا حتى بعدما بدأت الكتابة والنشر. هناك لحظة من دون معرفة كيف ولماذا - مع ان من السهل معرفة لماذا أكثر من كيف - أدرك فيها الشهرة، لأنني كتبت بعض الكتب التي قرأها الناس واحبوها. الآن أصبحت معرفة الپ"لماذا" أكثر تعقيداً لأن القراء حينما يقولون انهم أحبوا كتابك، فذلك يسرك بالطبع، غير ان من الافضل عدم سؤالهم لماذا يحبونه لأنهم غير قادرين على إجابتك. ليس مرة واحدة أو مرتين، بل مرات عدة، جاء أحدهم لي وقال: "قراءة كتابك غيرت حياتي" ثم اشعر كما لو انني اسأله "وكيف تغيرت؟ كيف كانت حالك من قبل وكيف هي الآن؟ وبأي صوب تغير مجرى حياتك؟" حسناً، ان الذي أعنيه بذلك هو أنني احترم الشهرة التي أملكها، وأنا أكثر دهشة من أي شخص آخر. ألم تشعر مرة بأنك مهجور، أي بالتفكير أن أحداً لا يأتي على ذكرك؟ - كلا، لأنني كل يومين أو ثلاثة أتلقى اشارات من الناس تتذكرني فيها. استلم رسائل، كثيراً من الرسائل، رسائل هي جوهر الانسانية. ما درجة الغرور التي على الكاتب ان يكتسبها؟ - كنت استطيع اجابتك لو تسنى لي معرفة درجة الغرور المسموح بها. لم يعد الكتاب أكثر غروراً من بقية الناس. المسألة انهم حينما يقومون بعمل ما يحوز على اعتراف الناس فإنهم في ما يتعلق بمسألة الغرور يصبحون أكثر حساسية. ان غرورهم هش وسريع الزوال لكونهم من البشر. ان اعتراف الجمهور يجعل من الغرور الذي لديهم اكثر هشاشة، اكثر سهولة لتجريده من أسلحته، لذا فإنه أكثر سهولة من غيره. ما هي درجة غرورك؟ - لست أدري، ربما يستطيع غيري اخبارك. هناك من يفكر ويقول ايضاً انني مغرور. أنا اعترف بأن هذا الغرور في بعض الاحيان انساني. الكلاب لا يصيبها الغرور... اعتقد بأن درجتي منها نسبية. هناك كتّاب، مثل صموئيل بيكيت، شعروا بإغراء الانسحاب من العالم. هل شعرت مرة بمثل هذا الإغراء؟ - كلا، العالم بالنسبة الي ليس تصفيقاً فقط، انه يطلق صفير الاستهجان بالقدر الذي يصفق تستطيع ان تعيش ما تريد من الانعزال، لكن مقت البشر شيء لا استطيع استيعابه أو رفض العالم ايضاً. من أنا حتى أرفض العالم؟ رفض العالم يعني ان لدي مفهوماً أسمى من ذاتي. تكلمنا في البداية عن الشهرة باعتبارها شيئاً سريع الزوال، وعن رونالدو، هل الشخص المشهور دائماً على شفير الهاوية؟ - دائماً، دائماً على شفير الهاوية وفي كل يوم. ان حالته شبيهة بالسيرك، انه كالمشاهد الذي يصاحب سيرك مدينة صغيراً، يتوقع سقوط لاعب الأكروبات يوماً. هناك الكثير من أمثال هذا المشاهد، هناك أناس ينتظرون سقوط الشخص الشهير، وهناك حاقد يبتهج كلما حدث مثل هذا السقوط. إذن الشخص الشهير يرغب في ان يكون خالداً، وكيف يكون الحال اذا كان الشخص ملحداً؟ - أكثر سوءاً، لأنني لا أؤمن بالخلود، ومن الواضح لي ان هناك أشياء تموت قبل حلول مواسمها، كالشهرة التي امقتها والتي لا أود ان أطلق عليها اسم شهرة. أخبرك بصراحة: لا أحب، ولا أظن نفسي شهيراً. من أنت إذن؟ - لست أدري، الشهرة شيء آخر، حالياً كل شيء يجري بسرعة فائقة وبشكل استهلاكي، والشهرة التي تدوم هي تلك التي يتمتع بها اشخاص معينون ممن وظفوا أنفسهم كعلف لآلامهم، خلاف ذلك، فإنها ليست سوى شيء زخرفي محض. ترجمة: نامق كام