قبل ذلك بأسبوع، كانت الفرحة تعم العالم العربي من المحيط إلى الخليج، حيث كان النصر يبدو شبه تام للمرة الأولى في التاريخ العربي الحديث على إسرائيل، إذ طوال الأسبوعين اللذين تليا يوم السادس من تشرين الأول 1973، كانت القوات المصرية التي عبرت قناة السويس، والسورية التي هاجمت مرتفعات الجولان المحتلة، تسجل النصر إثر النصر، والعالم يتفرج على ذلك كله مذهولاً لا يكاد يصدق. أما الإسرائيليون الذين سيقولون دائماً إنهم أخذوا يومها على حين غرة، فإنهم سيرتبكون كثيراً طوال أيام وهم يتخبطون غير مصممين ما إذا كان عليهم ان يبدأوا ردهم الكبير من الجبهة المصرية أم من الجبهة السورية. وكان القتال ناشباً بصورة غريبة، والكل في سباق مع الزمن. ولكن في اليوم الثامن عشر من ذلك الشهر، بدا ان الإسرائيليين اتخذوا قرارهم، بعد تردد: سوف يكون هجومهم المضاد على الجبهة المصرية، تاركين أمر الجبهة السورية لما بعد ذلك. وهكذا في ذلك اليوم اندفعت قوات ارييل شارون لتعيد اقامة رأس جسر لها عند الضفة الغربية لقناة السويس. وأخذت القوات المصرية عند ذلك على حين غرة، ولا سيما منها الجيش الثالث، الذي وجد نفسه فجأة محاصراً أو معرضاً لخطر شديد، هو الذي كان حتى الأمس منتصراً يستعد لقطف ثمار نجاحاته. وهكذا، بعد أسبوع من بدء القوات الإسرائيلية هجومها المضاد عبر رأس الجسر الذي اقامته عند الضفة الغربية للقناة الدفرسوار، وبالتالي عبر محاصرتها للجيش الثالث وأخذه رهينة، تبدل الموقف العسكري بصورة جذرية: أصبح الانتصار العربي أكثر اشكالية، وتنفس الإسرائيليون الصعداء. ومنذ صباح الرابع والعشرين من ذلك الشهر صار الشغل الشاغل لكل عربي، مصير الجيش الثالث، بعد أن تضاءلت أمام ذلك كل الاهتمامات الأخرى. والحال أن ذلك كله أحدث هزة نفسية عميقة أصابت الإنسان العربي الذي عاد ليجد نفسه أمام الخطر الصهيوني بعد أن كان الإسرائيليون قد وصلوا إلى خطوط دفاعهم الأخيرة، عسكرياً ونفسياً، ولكن سياسياً أيضاً. إذ أن أوروبا كانت - على عكس حال الولاياتالمتحدة - أبدت الكثير من التردد حيال أي عون لإسرائيل يطلب منها. كانت أوروبا بشكل عام تنظر بعين الرضا إلى ذلك الانتصار العربي، ويسرها أنه انتصار محدود، يعيد للعرب بعض اراضيهم، ويعيد تحريك عجلة المفاوضات السلمية في الشرق الأوسط. من هنا، حين جن جنون الأميركيين أمام اخفاقات إسرائيل في الأيام الأولى، وقرروا أن يقيموا جسراً جوياً سريعاً يوفر لإسرائيل ما هي بحاجة إليه من أسلحة ودعم، رفض الأوروبيون ان تستخدم في ذلك قواعد حلف شمال الأطلسي القائمة في بلادهم. وهكذا اضطر الأميركيون إلى الانطلاق بذلك الجسر من الأراضي الأميركية إلى إسرائيل، مع توقف في جسر آسور. وكان ذلك الجسر من السرعة والفعالية بحيث كان هو الذي قلب الأوضاع بسرعة، ومكن قوات إسرائيل من أن تستعيد المبادرة في وقت كان فيه الرئيس المصري أنور السادات يعتقد أن الحرب ستنتهي خلال أيام بعبور قواته ما يجبر إسرائيل على التفاوض. التفاوض كان رغبة إسرائيلية أيضاً، لكن إسرائيل لن تفاوض من موقع الضعف والهزيمة، لا هي تريد ذلك لنفسها ولا الأميركيون يريدونه لها. من هنا كان ذلك الهجوم المضاد المباغت، الذي فاجأ المصريين والعالم، ودفع الجيش المصري بعد تقدم في سيناء، في وقت كانت فيه القيادات العسكرية المصرية تنتظر أوامر القيادة السياسية لتتقدم أكثر، دفعه إلى التراجع مرة أخرى في اتجاه منطقة القناة. ولسوف يقول القادة العسكريون لاحقاً في مذكراتهم ان القيادة السياسية اخطأت في منعهم من التقدم، لأن ذلك المنع هو الذي أعطى الإسرائيليين فرصة التقاط الانفاس، في الوقت الذي كانت فاعلية الجسر الجوي الأميركي بدأت تظهر فيه. المهم يوم 24 تشرين الأول كان كل شيء تبدل، وانتصارات الأيام الأولى العربية تركت مكانها لقلق كبير، وصارت الصورة الأساسية صورة الاف من الجنود المصريين الجيش الثالث مطوقة، لا يعرف أحد مصيرها، وهذا التطويق هو الذي انتهت عليه يومها تلك الحرب الخاطفة المدهشة، التي رغم كل شيء عرفت كيف تعيد للعرب ثقتهم بأنفسهم، وكيف تعيد خلط الأوراق في منطقة الشرق الأوسط، وكيف - وهذا أساسي - تفهم الإسرائيليين ان ليس ثمة في الحقيقة منتصر نهائي أو مهزوم نهائي في أي حرب من الحروب الصورة قوات إسرائيلية تعبر في العام 1973.