في غمرة الشعور بالفرحة التاريخية، وتحقيق انتصار كبير في حرب أكتوبر عام 1973، لا يزال المصريون يتحدثون بمرارة عن ثغرة الدفرسوار، التي كادت تقلب ميزان الحرب، ويعتبرها كثيرون السرقة العلنية التي أرقت طعم النصر الكبير.. وجعلت البلاد في حرج كبير، كاد يفسد طعم الانتصار.وعلى مدار عقود كثيرة، لا يزال التعتيم على قصة "الثغرة"، وكأنها جريمة يحاول الجميع التنصل منها، سواء لإبعاد شبهة التقصير، أو باعتبارها حقلاً من حقول الألغام العديدة لحرب أكتوبر، والتي لا يجوز الاقتراب منها أو حتى مجرد السؤال عنها. الخديعة الكبرى وقد أطلق مصطلح "الثغرة" على تلك العملية العسكرية التي خدع بها الجيش الإسرائيلي نظيره المصري، بعدما استغل تهور الرئيس الراحل أنور السادات في أحد القرارات أثناء الحرب، والذي وُصف بأنه "غير مسار الأحداث وأنهى تقدم المصريين على جبهات القتال"، لتتمكن بعدها القوات الإسرائيلية من تطويق الجيش الثالث الميداني عبر المنطقة المفصلية التي تفصله عن الجيش الثاني، وتحديداً عند منطقة البحيرات، وتتمركز في الضفة الغربية للقناة، مهددة مدينتي الإسماعيلية والسويس، وليتأزم الموقف أكثر، بنشر إسرائيل صوراً لرئيسة وزرائها جولدا مائير في منطقة الزيتية القريبة من السويس، التي خاضت معركة بقاء شرسة، نجحت فيها المقاومة الشعبية بقيادة الشيخ حافظ سلامة في كسر الهجوم الإسرائيلي، ومنع احتلاله للمدينة الباسلة، بل وكبدته خسائر فادحة. الأمر والنتيجة ووفق عديدٍ من المؤرخين العسكريين، فإن الثغرة حدثت كنتيجة مباشرة لأوامر الرئيس السادات بتطوير الهجوم شرقًا نحو المضائق، رغم تحذيرات القادة العسكريين، وخاصة الفريق سعد الدين الشاذلي بأنه إذا خرجت القوات خارج مظلة الدفاع الجوي المصرية فستصبح هدفًا سهلاً للطيران الإسرائيلي.وبالفعل في صباح يوم 14 أكتوبر عام 1973م تم سحب الفرقتين 4 و21، الموكل إليهما تأمين مؤخرة الجيش المصري من ناحية الضفة الغربية لقناة السويس، وصد الهجوم عنه إذا ما حدث اختراق للأنساق الأولى، وكانت هناك 3 ثغرات تتضمنهم خطة العبور المسماة ب"المآذن العالية"، والدفع بهما شرقًا نحو المضائق. وسرعان ما تكتشف إحدى طائرات الاستطلاع الأمريكية فجوة طولها ميلان وعرضها ميل واحد، بين الجيشين الثاني والثالث بالإسماعيلية، فتسرع واشنطن التي وقفت بجوار تل أبيب بكل ما تملك لإبلاغ إسرائيل، ليتم الاختراق عبر رأس جسر سريع بقوة 7 دبابات و3 مدرعات و250 فرد مشاة بقيادة الجنرال إيريل شارون، متجها من الضفة الشرقية للغربية، ونتيجة مباشرة لسوء التعامل مع الثغرة، أو الاستهانة بها، تدفقت القوات الاسرائيلية على منطقة غرب القناة ووصلت إلى ثلاث فرق مدرعة بقيادة شارون وابراهام وماجنK فيطالب رئيس الأركان وقتها، الفريق سعد الدين الشاذلي بسحب الفرقة الرابعة واللواء 25 المدرع من نطاق الجيش الثالث ودفعهما بمساندة طائرات الU 16 الروسية، لتصفية الثغرة بمن فيها مصريين وإسرائيليين تماماً في بداياتها، ولكن السادات عارض الفكرة بشدة، سعياً ل"حفظ أرواح أبنائه الجنود"، كما قال.. لينشب خلاف مستعر بين الرجلين، أقال السادات بعده رئيس أركانه الغاضب. اتساع وتطويق تعقد الموقف مع تدفق القوات الإسرائيلية، في الفترة من 18 إلى 22 أكتوبر، حيث قام الإسرائيليون بصد هجمات القوات المصرية المضادة وإنشاء رأس كوبري لها غرب القناة في مساحة محدودة في بادئ الأمر.. وتطورت الأوضاع بوصول القوات الإسرائيلية إلى طريق السويس/ القاهرة وتطويق الجيش الثالث الميداني، وتوقفت بسبب صعوبة وضعها العسكري غرب القناة، وتكبدت خسائر فادحة، قبل صدور قرار مجلس الأمن رقم 338 بوقف إطلاق النيران اعتبارا من الساعة 6.52 من يوم 22 أكتوبر 1973.. بالتزامن مع فشل شارون في الاستيلاء على مدينة الإسماعيلية، ما وضع القوات الإسرائيلية في مأزق صعب، وجعلها محاصرة بين الموانع الطبيعية والاستنزاف والقلق من الهجوم المصري المضاد الوشيك، ولم تستطع الولاياتالمتحدة تقديم الدعم الذي كانت تتصوره إسرائيل في الثغرة بسبب تهديدات السوفييت ورفضهم أن تقلب الولاياتالمتحدة نتائج الحرب. إسرائيل لم تلتزم بقرار وقف إطلاق النار، وبدأت المرحلة الثالثة من هجومها في الفترة من 23 إلى 28 أكتوبر، حيث اندفعت قواتها جنوبا وغربا، في محاولة لاحتلال مدينة السويس وفشلت نتيجة المقاومة الباسلة لأبناء المدينة ورجال القوات المسلحةK ليصل الأمر لمحاصرة المدينة والفرقتين 7 و19 مشاة من الجيش الثالث الميداني شرق القناة، ليتم وقف إطلاق النيران الفعلي قبل ظهر يوم 28 أكتوبر. اعتراف وتهديد تأزم الموقف، بإعلان مصر إمكانية القضاء على الثغرة، ونجحت في تطويقها تماماً تمهيداً لإنهائها، ليرتعد الإسرائيليون. وزير الدفاع الراحل موشي ديان اعترف بخطأ عبور قواته واقترح إلغاء الفكرة "لأن المصريين سيذبحون أولادنا على الشاطئ الغربي".. أما الجنرال جونين فقال "لو كنا نعلم مسبقاً أن ذلك سيحدث ما بدأنا عملية العبور، أما الأن فقد عبرنا فلنستمر حتى النهاية المريرة".. زاد الأمر مرارة في نفوس الإسرائيليين، اعتراف قائد الثغرة شارون بفقده 300 قتيل و1000 مصاب في ليلة واحدة من معارك الثغرة. وعند تأكد الولاياتالمتحدة من ذلك، سارعت بإيفاد وزير خارجيتها وقتها هنري كسينجر، الذي أبلغ السادات بعلم بلاده بقدرة القوات المصرية على تدمير الثغرة، والقضاء على ما يقرب من ثلث الجيش الإسرائيلي، أبلغه في لهجة تهديد، بأن واشنطن لن تقف صامتة لو حدث هذا وستتدخل بقوات أمريكية مباشرة، فردّ السادات بأنه لن يترك شبرا من سيناء حتى ولو كلفه هذا تدمير الجيش المصري بأكمله، فوعده كسينجر بعودة سيناء بالمفاوضات مقابل وقف إطلاق النار، وبدأت وقتها مفاوضات السلام الشهيرة والتي عرفت بمفاوضات "الكيلو 101" نسبة إلى طريق السويسالقاهرة. شهادات ومسؤولية خبراء عسكريون، حمّلوا الرئيس السادات المسؤولية عما حدث، أولهم رئيس الأركان الراحل، الفريق سعد الشاذلي، أحد شهود الواقعة، وصف ذلك القرار في مذكراته بأنه كان "أول غلطة كبيرة ترتكبها القيادة المصرية خلال الحرب"، وأضاف: إن هذه الغلطة جرّتنا "إلى سلسلة أخرى من الأخطاء التي كان لها أثر كبير على سير الحرب ونتائجها".بينما يقول رئيس جهاز الاستطلاع الأسبق وأحد القادة في الحرب، اللواء نصر سالم، في شهادته: إن الثغرة "صناعة أمريكية" مستنداً لمذكرات رئيس أركان الجيش الإسرائيلي الأسبق، بنيامين أليعازر، الذي نصحه البنتاجون بالحصول على أي مساحة غرب القناة.. وكشف أيضاً عن مسؤولية الرئيس السادات «غير المقصودة»، وقال: إن خطأه الاستراتيجي أنه أراد تخفيف العبء عن الجيش السوري في الشرق، فسحب القوات من غرب القناة، لتصبح المنطقة خالية ومن ثم يحدث ما حدث.من جهته، قال اللواء أركان حرب أحمد أسامة إبراهيم قائد ما عُرف ب"المهمة المستحيلة" في حرب أكتوبر: إن تدخُّل السياسة في العسكرية "خطيئة" أدت لتضاعف الخسائر المصرية في وقت قياسي.وأضاف: إنه في يوم 14 أكتوبر صدر قرار السادات بتطوير الهجوم، وهو ما رفضه قادة الجيوش، وعلى رأسهم الفريق الشاذلي، لأن أوضاع القوات والإمكانات المتاحة لا تسمح بعملية التطوير.. واعتبر تدخل القائد الأعلى كان "سياسياً وليس عسكرياً وهذه هي الخطيئة الكبرى". وأكد أنه من حق القائد الاعلى أن يقول ما يشاء، ولكن عندما يعترض رئيس الأركان أو قائد القيادة المركزية، فيجب الانصياع، لأنه الأدرى بأوضاع القوات.رغم كل التفاصيل، ورغم الشهادات المتعددة، إلا أن الثغرة تبقى في حاجة لمزيد من التأريخ الحقيقي، بحثاً عن الأسباب الخفية لمحاولة "نشل" الفرحة المصرية التي كانت في أوج مجدها.