سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
كتاب "عالم تحول" بقلم جورج بوش وبرنت سكوكروفت ... الحلقة الخامسة والعشرون . بوش : شعر فاوينسا بأن ياروزلسكي لا يعامل معاملة عادلة وكان الجنرال يريد الأفضل لبولندا حتى لو عنى ذلك تفكيك اجزاء من الاشتراكية
رأت ادارة الرئيس بوش جورج بوش في 1989 اسباباً عدة لقيام الرئيس بزيارة الى بعض دول اوروبا الشرقية، خصوصاً بولندا وهنغاريا بسبب ما ظهر فيهما من بدايات اصلاح سياسي واقتصادي يبشر بإبعادهما عن فلك الاتحاد السوفياتي. ففي بولندا اسفرت نتيجة الانتخابات في 4 حزيران يونيو عن فوز نقابة التضامن بكل واحد من مقاعد ال "سيم" ال 161 وب 99 مقعداً من مقاعد مجلس الشيوخ ال 100. وكانت هناك تحولات مماثلة في هنغاريا، غير ان اقتصاد كل من هذين البلدين كان يواجه مشكلات جمة ولم يكن في وسع الولاياتالمتحدة ان تعرض عليهما خطة مارشال جديدة. وفي غضون ذلك، كان الزعيم السوفياتي ميخائيل غورباتشوف يعرض على حلف شمال الاطلسي اجراء تخفيضات عميقة في مستويات الاسلحة والقوات متحدياً الغرب الى الاستجابة. واعلن غورباتشوف ان موسكو لن تتدخل في التغييرات السياسية في هنغاريا وبولندا، نابذاً بذلك ضمناً نظرية بريجينيف التي ادعت الحق السوفياتي في منع اي محاولة للخروج من المعسكر الاشتراكي. ونترك لجورج بوش وبرنت سكوكروفت وصف ردّ فعل الولاياتالمتحدة من خلال الفصل الخامس من كتابهما وعنوانه "فجل": جورج بوش جعلت شعبية اقتراحات غورباتشوف الجديدة في اوروبا الغربية رحلتي الى اوروبا الشرقية أمراً ضرورياً من أجل معادلة جاذبية رسالته - بأن الغرب لا يحتاج لانتظار أعمال ملموسة من الاتحاد السوفياتي قبل ان يخفّض احتراسه واستعداده العسكري. غير ان القصد من الزيارة كان بصورة رئيسية تشجيع الإصلاحيين هناك ولكن كان لا بد لي ان أكون حذراً بشأن ما أقول وأفعل. إذ ان المشاجرة المفتوحة تقريباً في حلف وارسو أظهرت هَشَاشَة الوضع. وكان علينا التزام بأن نكون عاملاً حفّازاً مسؤولاً، حيثما أمكن، للتغيير الديموقراطي في اوروبا الشرقية…. خشيَ السوفيات من ان القصد من رحلتي الى اوروبا الشرقية تشجيع القلاقل، او انها قد تثيرها عن غير قصد. وبعيداً عن وجود مثل هذه النوايا لديّ، كنتُ أشاطرهم بعض نواحي قلقهم. فإذا احتشدت جماهير غفيرة، معتزمة إظهار معارضتها للسيطرة السوفياتية، يمكن ان تخرج الأمور عن نطاق السيطرة. ويمكن ان يتحول استقبال حماسي الى اضطرابات عنيفة ضد نظام الحكم، ويكون لذلك آثار مُدمِّرة على الإحساس المُتنامي بالتفاؤل والتقدّم والذي بدأ يعمُّ المنطقة. لهذه الأسباب قصرنا الأحداث المبرمجة التي تشارك فيها جماهير كبيرة على حدثٍ في غدانسك، حيث يمكن توقّع ان ليخ فاوينسا سيُبقي الأمور تحت السيطرة، وعلى مناسبة مماثلة عند وصولنا الى بودابست. برنت سكوكروفت هبطنا في مطار أوكييتشي في وارسو حوالي الساعة 10 مساءً في مساء يوم دافئ رطب حيث استُقبلنا استقبالاً رسمياً. لم يكن هناك متفرجون، وانما فقط مجموعة استقبال رسمية كبيرة، ضمّت ليس الجنرال ياوزلسكي وحسب، ولكن ايضاً ممثلي التضامن…. في 10 تموز يوليو بدأت زيارتنا بداية نشيطة، جامِعةً المراسم الرسمية البروتوكولية لزيارةِ دولة الى جانبٍ اكثر خصوصية: محادثات مع ياروزلسكي وفاوينسا بشأن أفضل الخطوات التالية لتطوّر بولندا الى دولة غير شيوعية مع اقتصاد سوق، وتشجيع الجانبين على العمل معاً…. جورج بوش فكّرت في رحلتي في 1987 فيما كنا متوجهين بالسيارة للقيام بما سُمّي بزيارة مجاملة الى يازولسكي بصفته المتبقية كرئيس دولة. في زيارتي السابقة، أجرينا، هو وأنا، بعض المحادثات الشيّقة، وكنتُ أتطلّع الى رؤيته. وجدته معقولاً وكيّساً اكثر بكثير مما توقعت، ومهذباً يملك روح دعابة. أُعجبتُ بصورة خاصة بوطنيته. وكنتُ بالطبع منزعجاً من حُكمه الديكتاتوري، وبحقيقة انه سَجَنَ أعداداً كبيرة من البولنديين لمجرد مطالبتهم بالحرية والديموقراطية. ومع ذلك، رأيت رجلاً محصوراً بين حبّه لبلاده وبين الخضوع للاتحاد السوفياتي الذي تتطلبه منه الحقائق الجيوبوليتيكية. كان في زيارتي السابقة قد كرّر الخط الرسمي القائل بأن التضامن ميّتة من ناحية عملية…. والآن، بعد عامين من ذلك، دخلنا، ياروزلسكي وأنا، في نقاشٍ مفتوحٍ بدرجة مساوية. عندما وصلنا الى قصر بلفادير تحوّل ما كان مُقرراً ان يكون لقاءً لعشر دقائق يتخلله شرب قهوة الى محادثة استمرت ساعتين. فتح ياروزلسكي قلبه وسألني عن الدور الذي أعتقد انه يجب ان يلعبه الآن. أخبرني بتمنّعه عن الترشّح لمنصب الرئيس ورغبته في تجنّب مشاحنات سياسية لا تحتاجها بولندا. قال انه لا يعتقد بأن التضامن ستوفّر دعماً كافياً لانتخابه وأبدى قلقه من مذلّةِ تعرّضه لهزيمة. قلت له ان رفضه ترشيح نفسه قد يؤدي عن غير قصدٍ الى عدم استقرار خطير وحضّيته على إعادة النظر. كان الأمر مثيراً للسخرية: هنا رئيس أميركي يحاول إقناعَ أحد كبار الزعماء الشيوعيين بترشيح نفسه لمنصب. لكنني شعرتُ بأن خبرة ياروزلسكي هي أفضل أملٍ لانتقالٍ يسيرٍ في بولندا. اعتقد ياروزلسكي ان بولندا تحتاج الى حكومة ائتلافية، مع رئيس وزراء شيوعي ونائبِ رئيس وزراء من المعارضة. وكانت المشكلة ان أي حكومة كان لا بد لها ان تتخذ اجراءات اقتصادية قاسية، وكان هذا أمراً صعباً خصوصاً بالنسبة الى التضامن، التي كانت في آن معاً نقابةَ عمالٍ وحزباً سياسياً. أشار الى ان النقابات المنظّمة في الولاياتالمتحدة تسيطر على نحو 20 في المئة من القوة العاملة، اما في بولندا فتبلغ 80 في المئة. ومن الصعب هَندسةُ منافسةٍ في ظل هذه الأحوال. قال: "الأعمال الحرّة والقطاع الخاص مريضان". وأضاف ان التضامن تُطالبُ بأن يحصل المزارعون لقاء منتجاتهم على ثلاثة أضعاف السعر الذي تُباع به في المتاجر. قلت: "التضامن يجب ان تُدرك ان هذا كله يجب ان يتغيّر". ردّ قائلاً: "الزعامة تعرف ذلك لكنها خائفة من فقدان قاعدة تأييدها". وأضاف: "الغرب يستطيع ان يساعد، لأن الحاجة تدعو، في هذه الفترة التي تحتاج بولندا فيها الى تقشّف قاسٍ الى ضغط من الخارج لتبنّي الاصلاحات". عليهم الغرب ان يتحركوا لمنع الانهيار الاقتصادي. ثم يستطيعون اعادة الاستقرار الى الاقتصاد. اما اعادة البناء، وهي المرحلة النهائية، فيمكن ان تستغرق في حدّ ذاتها عشر سنوات. وقال انه كتبَ رسالة الى الدول الصناعية السبع الكبرى مُجمِلاً مشكلات بولندا. وأعرب عن أمله بأن أُثيرَ هذه القضايا في باريس. قلت لياروزلسكي انني سأذكر بعض هذه المشكلات مع فاوينسا عندما أراه في اليوم التالي، وأنني سأتحدث الى الدول الصناعية السبع الكبرى عمّا يمكن عمله بالنسبة الى بولندا. شرحتُ الحزمة التي جلبناها معنا والتي كنتُ سأُعلنها بعد الظهر في ال "سيم". قلت أنني أعي ان البعض في بولندا يطلبون مساعدةً قيمتها عشر بلايين دولار. وأضفتُ أن هذه ستضيع سدى من دون إصلاح جوهري أولاً. وافق ياروزلسكي. قال: "من المهم ان تذكِّر العمال البولنديين بأن عليهم إبقاء أقدامهم على الارض وان يعملوا بجدّ. ليس من الكافي مجرد الاعجاب بالثراء الأميركي". أرادني ان أعرف أن البولنديين أخذوا يتّحدون. قال انه يحترم فاوينسا وان الزعيم النقابي أخذ يصبح شريكاً كاملاً في السعي الى حلول لمشكلات بولندا. وبناء على ذلك فقد كان من المسائل الحساسة بالنسبة اليه ان يُرى وهو ينتقدُ التضامن في أحاديثه. طأطأتُ برأسي قائلاً: "أنني أعي ذلك. هذه فترة حساسة، ومن المهم عدم إعاقة المُنجزات البولندية الهائلة"…. هذا الاجتماع غير العادي أعقبه غداء غير عادي الى درجة مشابهة في منزل السفير الاميركي جون آر ديفيز. وكان ديفيز، وهو من ضبّاط السلك الخارجي ذوي الخبرة محترماً جداً في نظر مجموعة الضيوف المتنوعة - نحو أربعين من زعماء الشيوعيين، والتضامن، والكنيسة الكاثوليكية. وكانت تلك حرفياً المرة الأولى التي يجلسون فيها معاً في لقاء اجتماعي - السجّانون والسجناء الى المائدة نفسها. ولاحظ يانوش اونيشيكيفتشيك، الذي كان يضرب كأسه المليئة بالشامبانيا بكأس ياروزلسكي، انه اذا اخذ المرء في الحسبان انه كان في السجن الى ما قبل سنة، فإن هذا يمثّل بالفعل تغييراً كبيراً. كان الطقس ما يزال حاراً جداً، واقترحتُ ان ننزع معاطفنا، وهي فكرة استُقبلت بحماسةَ. عندما وصل ياروزلسكي، تردّد في نزع معطفه ولكن بعد ان اختفى في غرفة اخرى عاد وظهر من دونه. وخلال تبادل الأنخاب اعترف لي انه نَزَعَ ايضاً حمّالة بنطلونه وخشي من إلقاء خطاب أطول من اللازم خوفاً من ان يسقط بنطلونه. برنت سكوكروفت التقطت الأنخابُ روح اللحظة. اذ قال الرئيس بوش لضيوفه: "ان تحدّيكم هو الارتفاع فوق عدم الثقة، ورصّ صفوف الشعب البولندي من اجل هدف مشترك". وقال ياروزلسكي الذي فوجئ بأن طُلِبَ منه قول نخب: "أعتبر ان من المهم أننا هنا في منزل سفير الولاياتالمتحدة نستطيع ان نجتمع في مثل هذه الصحبة التعددية". وتحدّثَ برونيسلاف جيريميك، الذي ترأّس كتلة التضامن في ال "سيم"، بتفاؤل: "ما تزال بولندا مقسّمة ولكن من الممكن أنَ ما يحدثُ في هذه اللحظة يحدثُ بالفعل في عموم انحاء البلاد.... حتى هذه البداية بالذات تُنبئنا بما تمثّله بولندا الآن. اولاً وقبل أي شيء، نحن نسعى الى تفهّمٍ لما يحدثُ في بلدنا. إن مستقبل الاصلاحات البولندية يعتمد على البولنديين وحدهم. نحن لا نتوقع ان تُنفَّذَ على حسابِ جهة اخرى أو بأيدي آخرين". كان مشهداً درامياً وعرضاً مفصّلاً للدور الذي كانت تلعبه الولاياتالمتحدة كقابلةٍ في لحظةٍ حاسمة في التحوّل المتوتر ولكن السلمي لأوروبا الشرقية من الحُكم الفردي الى التعددية. بعد الغداء خاطبَ الرئيسُ الجمعية الوطنية، وهي المرّة الأولى التي يتحدّث فيها رئيس أميركي هناك. كان خطاباً رافعاً للمعنويات. قال ان بولندا هي البلد الذي بدأت فيه الحرب الباردة قبل خمسين عاماً، وفي وسع شعبها ان يساعد الآن في إنهاء تقسيم اوروبا…. واستُقبلتْ اقتراحاتنا المحدودة للدعم الاقتصادي بحماسةٍ متحفِظة على نحوٍ كان يمكن توقعه. وفي النهاية، كان البولنديون لطفاء عموماً، بإدراكهم أنْ ليس من المرجح ان يقوم أحدٌ بالعمل الشاق نيابةً عنهم وأن الدعم السياسي الذي أبداه الرئيس كان ذا قيمةٍ جوهرية الى حد اكبر وأطول مدى من مجرد بضعة دولارات اخرى. كان اعضاء الجمعية متحمّسين مع ذلك وهتفوا له بالهتاف البولندي التقليدي، "ستو لات"، أي "مئة سنة، مئة سنة، فليعشْ، فليعشْ لنا"، وهو هتاف قال ياروزلسكي في ما بعد ان أي زعيم أجنبي آخر لم يُستقبلْ به - لا ديغول، ولا خروتشوف، ولا بريجنيف…. جورج بوش في اليوم التالي، 11 تموز يوليو، سافرنا الى غدانسك لغداءٍ وخطاب، وهي رحلة حقّقت كل ما كنّا نأمل به وأعطتني فرصةً للتعرّف بصورة أفضل الى فاوينسا. يطفح ليخ فاوينسا بحماسةٍ معدية. وفي اللحظة التي قابلته فيها في رحلتي السابقة، أحببته. في عينيه لمعة وهو ميّال الى الابتسام والضحك…. بدأت احداث اليوم بغداء لباربرا ولي أقامه ليخ ودانوتا فاوينسا في منزلهما المتواضع على مشارف غدانسك. قال لنا ليخ أنهما في هذا المنزل الصغير ربّيا عائلة كبيرة. وكان المنزل مفتقراً الى الكثير من الأدوات والمفروشات الحديثة التي تعتبرها غالبية العائلات الاميركية من المسلّمات، ولكن كان من الواضح انه بيتٌ دافئ. كانت الصحافة تتزاحم لإلتقاط الصور، ولذا خرجنا الى حديقة عائلة فاوينسا فيما أخذ ليخ يشير باعتزاز الى نباتاته ودوالي عنبه. كان هناك شيء ما متواضعٌ وطبيعي في عيش بطلِ بولندا الحقيقي هذا قريباً هذا القُرب من جذوره، وفي عيشه، كأي عضوٍ في نقابة، ضمن حدود إمكاناته، مجرّداً من أي إسرافٍ أو بهرجة. كان لقاؤنا حول مائدة الطعام في منتهى الإلفة، واقتصر علينا نحن الأربعة، لكنَ فاوينسا وزوجته نظّما غداء من خمسةِ او ستة أصناف طعام، كاملاً مع شوك وملاعق فضية وطعام شهي وبضعة أصناف من النبيذ. وقام خدم أُستُعيروا من فندق قريب على خدمتنا. بدت دانوتا غير مرتاحة الى حدٍّ ما طوال فترة الغداء. وهي هادئة وخجولة على أي حال، وبدا أن هذه الفخامة المنظّمة كلها في منزلها قد غمرتها. تحدّثَ ليخ بحماسةٍ وبدا غير واثقٍ وغير واقعي في طلباته إلينا. قال ان بولندا لن تطلب عشرة بلايين دولار كما ذكرت الصحافة، لكنه أراد للمصارف ان تأتي وتقدّم قروضاً تصل الى ذلك المبلغ. ستُسدّد بولندا كل سِنْت. وسلّمني ورقةً تُظهرُ طلباتٍ الى البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، وجهات اخرى. كان واثقاً من ان المصارف والشراكة الخاصة ستلبي حاجات البلاد. تساءلت عما اذا كان يفهم كل تفاصيل ما كان يُريني. وساورني شعور بأن هذا الرجل الفخور لم يُردْ لبلاده ان تطلبَ، والقبعة في يدها، أموالاً منّا. قال لي فاوينسا ان البولنديين يعرفون ان عليهم ان يعملوا، لكنه أصرّ على انهم لا يستطيعون انتظار الاصلاحات قبل ان يتلقوا المساعدة. أراد من الغرب ان يشتري أسهماً في مستقبل بولندا. وقال انه سيقترح خطة لبيع كل المشاريع بالمزاد العلني - حتى المزارع البولندية التي قال انه يعتقد ان مزارعين اميركيين قد يريدون شراءها. كانت خطة طموحة. وقال مازحاً: "لا مهرب لي. إذا فشلتْ فعليَّ أن أفكّر في أين يمكنني أن أذهب بحثاً عن ملجأ". كان فاوينسا يعتقد ان كيشتشاك فقط يمكن ان يكون رئيساً وأنه سيدعمه. وقال: "ليس هذا ما أحببت، ولا ما تمنيت، ولكنني سأفعله". رأى ان ياروزلسكي خيار أفضل لكنه لن يرشّح نفسه. وقال ان كل شيء يعتمد على الاقتصاد. وتنبّأ بأنه من دون مساعدة اميركية كبيرة ستكون هناك إضرابات وسيُضطر ياروزلسكي الى إرسال الجنود لقمعها. شَعَرَ بأن الجنرال لا يُعامل معاملةً عادلة من كثيرينَ في المعارضة. وأعلن: "ان ما يحدث اليوم خطأ في حقّ ياروزلسكي". وقال انه لا يوجد سوى شيوعيين حقيقيين قلائل "اما الباقون، بمن في ذلك ياروزلسكي، فهم &فجل& - حُمرٌ من الخارج فقط". أضاف ان اناساً كثيرين يعتقدون بأن لديهم ثأرات يجب تسويتها مع الجنرال. وقال: "انهم يستخفون بقدرته". أراد فاوينسا تمرير المعونة مباشرة الى التضامن. قال: "يجب ان نُبطئ وتيرة التطوّر السياسي حتى يستطيع الاصلاح الاقتصادي اللحاق به"، وحذّر من انه اذا فشلَ البولنديون فستكون هناك تيانمين اخرى في وسط اوروبا. سألته بلطفٍ عن مطالب التضامن. قال لي ان النقابة براغماتية وَتَفْهَم انها لن تحصل على ما تريد في ما يتعلق ببعض القضايا الصعبة. لم أكن متأكداً الى ذلك الحدّ برغم أنني لم أقلْ ذلك. اذ كانت مشكلات بولندا الاقتصادية مخيفة، وكنتُ أخشى أنَ التضامن لم تستوعب ما يتطلبه التغلّب عليها. وكانت بعض مطالبهم، مثل إعطاء إجازة أمومة لمدة خمس سنوات، عميقة الأثر الى درجة انه لا يمكن لحكومةٍ ان تلبّيها وتضطلع باصلاحات اقتصادية في الوقت نفسه. بعد الغداء ركبنا السيارة، باربرا وانا، مع فاوينسا الى حوض لينين لبناء السفن، حيث كان من المقرر ان أتحدث. وفيما اقتربنا من الموقع، بدا فاوينسا مندهشاً من حجم الجمهور. ظل يقول بالانكليزية "يا إلهي، يا إلهي". قال انه اكبر جمهورٍ رآه في حياته. تحدّثتُ أمامَ نصب عمال التضامن الى حشدٍ مفعمٍ بالحيوية ملأ الميدان وفاض الى خارجه. من المستحيل وصف مشاعر الانفعال بِدقّة. كان هناك آلاف على جانبيّ الطريق المؤدي الى وسط المدينة، وتقديراتٌ تصل الى 250.000 في الميدان. كانت لحظة عاطفية، بكى فيها رجالٌ ونساءٌ كبار. كل علائم المحبة للولايات المتحدة كانت هناك: أعلام، ويافطات مكتوبة باليد ترحّب بي، وتعبر عن الصداقة بين الولاياتالمتحدة وبولندا، وفي كل مكان شارة النصر "V". في الخطاب أشرتُ الى كفاح بولندا في الحرب العالمية الثانية وغرقها بعد ذلك في أحزان الحرب الباردة. قلتْ: "لقد حان وقتكم. انه وقت الإمكانات لبولندا. انه وقتُ المصير لبولندا، وقتٌ يمكن ان تحيا فيه الأحلامُ مرة اخرى". أميركا ستقف معهم بينما يُعيدون اكتشاف أرض جديدة، أرضٍ من صنعهم، بولندا قوية وفخورة. وكنتُ، قلباً وروحاً، مُنغمساً عاطفياً خلال حديثي. فكّرتُ في أعمالٍ وحشية سابقة في بولندا، وفي شجاعة فاوينسا، وفي الكبرياء البولندية. وكان الجمهور مُهيّأ مزاجياً الى حدّ كبير وكان يمكن ان يصفّق لأيّ شيء. وهتفوا تارةً "الرئيس بوش، الرئيس بوش" و"ليخ فاوينسا، ليخ فاوينسا" تارةً اخرى. في نهاية ذلك اليوم ساوَرَني إحساسٌ عارم بأنني أشهدُ التاريخ وهو يُصنع في المكان، مع وقوف زعماء نظام الحكم والتضامن جنباً الى جنب…. اعتقد، وقد فكّرتُ في تلك الزيارة بعد بضع سنواتٍ منها، وفي تلك المحادثات مع الزعامة البولندية، ان ياروزلسكي وشيوعيين آخرين كبار، ما زالوا في مناصب مهمة، كانوا زعماء مميزين جداً، وطنيين بولنديين، لا مجرد عقائديين حزبيين. كان ياروزلسكي بالذات معقّداً، ولكن واضح الذهن. فمن جهةٍ، كان رمزاً للقمع العسكري في 1981 والنظام القديم. ومن جهة اخرى، بدا انه يريدُ بعمق ما هو الأفضل لبولندا، حتى لو عنى ذلك تفكيك أجزاء من الاشتراكية البولندية. كنتُ أعلم انه يعتمد على غورباتشوف كصديق وانه يشعرُ بقدرٍ معيّن من الولاء له. ولكنه استنتج في مرحلةٍ ما ان بولندا تستطيع، ويجب، ان تكون متحررة من السيطرة السوفياتية. وكان لصداقته مع غورباتشوف تأثير واضح في جعل هذا الهدف اكثر من مجرد أملٍ بسيط. وأحسب انه اعتقد، بحلول منتصف 1989، ان السوفيات لن يتدخلوا وان لديه الآن هامش المناورة الذي لم يكن لديه من قبل ابداً ليضع بلاده على دربٍ جديد. برنت سكوكروفت لبّت الزيارة البولندية تماماً أهدافنا. لقد أظهرنا بصورة لا لبس فيها دعمنا لعملية الإصلاح، وفعلنا ذلك بطريقة رفعت معنويات البولنديين من دون ان تخرج الأمور عن نطاق السيطرة، وتجنّبنا إثارة ردّة فعل معاكسة. لا بأس في ذلك. وبينما غادرنا بولندا، من دون ان تكون أزمتها الدستورية قد حُسِمتْ، لم نُدرك التأثير الذي ولّدته أحاديث الرئيس المنفصلة مع ياروزلسكي وفاوينسا في تقريب الجانبين بعضهما من بعض وتحريكهما الى الأمام. وبعد وقت قصير من مغادرتنا بدأت مؤشرات الى نجاح محادثاته تَعرضُ نفسها. في 14 تموز يوليو، أعلن فاوينسا انه سيدعم أي مرشح يرشّحه الحزب الشيوعي، مشدّداً على ان الرئيس يجب ان يُنتخبَ فقط من الائتلاف الحاكم بقيادة الشيوعيين بسبب الوضع السياسي الهشّ. وأعقب بيان فاوينسا إعلان تأييد لياروزلسكي من حزب الفلاحين. ومع تحسّن فُرص انتخابه تحسناً دراماتيكياً، بدأ المزيد من التصريحات الإيجابية يصدرُ من معسكر ياروزلسكي. أما نحن فقد مضينا الى هنغاريا في 11 تموز يوليو. وكما كان جورج بوش أول نائب رئيس أميركي يزور هنغاريا قبل ست سنوات من ذلك، سيصبح الآن أول رئيس أميركي يفعل ذلك. كان الفارق في المزاج بين بولندا وهنغاريا، من حيث المظهر الخارجي، دراماتيكياً. إذ بينما كانت بولندا مُفعمة بالأمل، كانت حذرة ومتحسّبة. بدا البولنديون مركّزين أكثر على مشكلات العيش الحالية وأقل على وعدِ مستقبلٍ أكثر إشراقاً. أما في هنغاريا فقد كان هناك شعور بالحماسة الشديدة والترقّب، مُعدٍ الى حدّ كبير. لم تكن هناك بالطبع منظمة تضامن، ولكن كان هناك قدر كبير من التفاعل الفكري ضمن الحزب الشيوعي نفسه…. مع ان هنغاريا لم تكن قد قطعت على درب الانتقال السياسي شوطاً كالذي قطعته بولندا، فان التغيير كان في الجو. كان المتشّدد كارولي غروز ما يزال أميناً عاماً للحزب الشيوعي، لكنه كان الآن محاطاً بثلاثة زعماء آخرين، رُقّيَ أحدهم الى منصب الرئيس الذي أُوجدَ حديثاً. وكان من الواضح انه يجري إبعاد غروز تدريجاً عن مفاتيح السلطة. وكان من المقرر ان يُعقد مؤتمر للحزب في تشرين الاول اكتوبر، وان تحدثَ تغييرات كبيرة في ذلك الحين. في 16 حزيران يونيو احتشد 250.000 في بودابست لإعادة دفن إمري ناغي، رئيس الوزراء خلال ثورة 1956 الذي أُعْدِمَ في 1958. وصلنا الى بودابست خلال عاصفةٍ رعديةٍ صيفية، أخّرت هبوط طائرة سلاح الجو رقم واحد. كان من المقرر ان يُدلي الرئيس بوش ببعض الملاحظات عند وصوله في ميدان كوسّوث، في وسط المدينة، ووقف الجمهور هناك تحت المطر الغزير فيما كانت طائرتنا تحوّم فوقهم. كان الناس مبلّلين، لكنّ حماستهم لم تفتر. استقبلوا الرئيس استقبالاً حماسياً، بل انتظروا بصبرٍ بينما مضى الرئيس برونو ستروب، لعدم استعداده لاختصار كلمته بسبب التأخير والمطر، في إلقاء كلمته المُعدَّة سلفاً ببلادة على مدى خمس عشرة دقيقة. عندما اختتم ستروب كلمته في نهاية الأمر، صعد الرئيس بوش الى المايكروفون، وأزاح مظلةً وبدأ في تمزيق خطابه، على مرأى الجميع. إهتاج الجمهور. ثم ألقى بعض الملاحظات المُرتجلة مُثنياً على زعامة هنغاريا ذات العقلية الإصلاحية. وبينما كان يُنهي تعليقاته الوجيزة، بدأت شمسُ المساء تنفذ عبر الغيوم الداكنة، وبدت وكأنها تُضيفُ أشعتها الناعمة الى دفء المناسبة…. كان اليوم التالي، 12 تموز يوليو، يوماً كاملاً بالنسبة الى الرئيس بوش. كانت هناك اجتماعات مع زعامة الحزب الشيوعي، يعقبها خطاب ومزيد من الاجتماعات، هذه المرة مع زعماء المعارضة. وقد زار رئيس الحزب ريسّو نيريس، والامين العام كارولي غروز، ورئيس الوزراء ميكلوس نيميث. وفي وقت لاحق من النهار اجتمع مع عضو المجلس الأعلى إمري بوزغيه، زعيم الجناح الإصلاحي في الحزب، الذي كان أول من قال علناً ان "الثورة المضادة" في 1956 كانت في الواقع ثورة. باستثناء غروز، كان اكثر شيء جدير بالملاحظة في اولئك الرجال الطريقة التي كانوا يتطلّعون بها جميعاً الى الأمام، لا الى الوراء. لم يكن هناك إعراب عن الأسف، او حنين الى الماضي. قال بوزغيه انه يأمل بهنغاريا تكون دولةً ليبرالية دستورية. وجاءت إحدى أكثر اللحظات دراماتيكية عندما قدّم نيميث الى الرئيس بوش لوحةً تحتوي على قطعة سلك شائك من سياج الحدود بين هنغاريا والنمسا - قطعة حَرْفيّة من الستار الحديدي. بعد الظهر، خاطبَ الرئيس جمهوراً مهتماً ولكن هادئاً في جامعة كارل ماركس. قال لهم ان مهمة أي جامعة هي تشجيع تنافس الأفكار من غير قيود، وأن هذه كانت ولا تزال الروح التي تُرشدُ أحد أساتذة الجامعة العظام - إمري ناغي…. عَرَضَ الرئيس بوش شراكة الولاياتالمتحدة للمساعدة في تشجيع تغيير دائم في هنغاريا، وعرض بإيجاز اقتراحات للمساعدة. وأعلن، بين اجراءات اخرى، السماح لهنغاريا باستخدام نظام التفضيلات العام، وصندوقاً للمشاريع الخاصة قيمته 25 مليون دولار مشابه لصندوق ال 100 مليون دولار لبولندا، و5 ملايين دولار لمركز بيئي اقليمي، وسلسلة برامج تبادل اميركية - هنغارية، ومركزاً ثقافياً اميركياً في بودابست…. كانت هنغاريا في وضع اقتصادي افضل بكثير من بولندا ولم يظهر المستمعون رد فعل تجاه ما اعتبرته المساعدة القليلة التي نستطيع عرضها. كان هذا من دون شك أفضل خطاب في الرحلة، لجهة كل المضمون والإلقاء، لكن صمت الجمهور الكامل جعلني أتساءل. غير ان الجمهور وقف في الختام مصفّقاً للرئيس، وعلمنا في ما بعد ان من غير المعتاد التصفيق خلال الخطابات. بعد الخطاب، توجه الرئيس الى السفارة الاميركية، حيث اجتمع مع جماعات وأحزاب المعارضة الذين صاروا الآن أحراراً في العمل. ولقد لفت نظري التباين بين اولئك الزعماء المسنين، الذين شغل بعضهم المناصب ذاتها في أحزابهم عندما حُظِرَت في فترة 1947 - 1948، وبين المفكّرين التقدميين في صفوف الشيوعيين. كان عدد من اولئك الرجال يقدم المواقف القديمة المُتْعَبَةَ ذاتها التي سهّلت على الشيوعيين إزاحتهم جانباً عندما سيطروا على السلطة في بداية الحرب الباردة. بينما كنا نطير من بودابست الى بارس، تأملت في اوروبا الجديدة التي تولد…. كنا الآن متجهين الى آخر توقف مطوّل في رحلتنا. كان هذا اول اجتماع للدول الصناعية السبع الكبرى يحضره الرئيس بوش، وأردنا تركيز الاهتمام على اوروبا الشرقية والتغييرات التي رأيناها هناك مباشرة. أملنا بإقناع شركائنا بتحمّل بعض العبء الاقتصادي عن هذه البلدان - ففي النهاية، أوجِدت اجتماعات قمة الدول السبع هذه لمعالجة مثل هذه المشكلات…