"زينونة المنفى" هي مجموعة دراسات في شعر محمود درويش تتناول هذا الشعر من زوايا وجوانب عدة، يغوص بعضها عميقاً في البحث عن جوهرة التجربة الشعرية، فيما تحلق أخرى في محاولة الإمساك بمناخات هذه التجربة وفضاءاتها الموغلة في التعدد والتنوع والغنى، والقبض على روحها! لا شك أن تجربة محمود درويش لا تزال عصية على الاستيعاب وعلى وعي هذا التعدد والغنى والإبهار... وأنها لا تزال - وربما ستظل - في حاجة الى المزيد من القراءة والدرس والتأمل... خصوصاً أنها لمّا تزل تنمو وتشهد تحوّلات أساسية على غير صعيد أو مستوى. ولا شك أن القراءات والدراسات النقدية التي يضمها كتاب "زيتونة المنفى" هذا، ما هي سوى مفاتيح لأبواب ومداخل تقود الى عوالم يكنفها الغموض، ويلفها غيم كثيف. عوالم تحتشد بالمجاهيل، بالرموز، بالمعاني، وبالاجتراحات المعروضة لقدر لا متناهٍ من التأويلات. وما القراءات والدراسات الثمانية المقدَّمة هنا إلا جزء من جهد في هذا السياق، ولا تمثل كل منها غير قراءة تأويلية واحدة لا تستنفد تلك العوالم، ولا تدعي ذلك. في القراءة الأولى "الناي خيط الروح: محمود درويش وشكل الصوت الغنائي"، يحاول صبحي حديدي - بمقالته هذه "مقاربة الموضوع الغنائي بوصفه واحداً من أبرز السمات التكوينية في مشروع محمود درويش الشعري، سواء من حيث الديمومة الطويلة التي تكاد تبدأ منذ القصائد الأولى وتتواصل حتى القصائد الأخيرة، أو من حيث الحضور المركزي شبه الدائم في معظم النقلات الأسلوبية الكبرى التي عرفها هذا المشروع"، ويتوقف حديدي عند اشكاليات مصطلح الغنائية، ويُبرز بعض خصائص الموضوع الغنائي عند درويش من خلال قصيدة "فانتازيا الناي" في ديوان "هي أغنية، هي أغنية" 1986. ففي قصيدته هذه، بلغ محمود درويش ذروة دراماتيكية رفيعة وبارعة بحثاً عن مستوى عالٍ من "العلاقة بين الكلمة ذات الصوت، والموسيقى ذات الإيقاع الهرموني، والمعنى ذي المدركات الحواسية"... ذروة لم يبلغها على امتداد مساره الشعري. ومن سمات غنائية درويش، هذه البراعة في تحويل مزيج الروح الى هيئة صوت قادرة على ترجيع صدى في فضاء الخارج. ومنها أيضاً أسرار الاستعارة والصورة والمعجم، والإيقاع والتركيب والعمارة... الخ. وفي هذا الإطار ينضوي الارتطام بين ال"نحن" وال"أنا"، وتتقدم صفة "غنائي ملحمي"، التي أطلقها يانيس رتيسوس لوصف شعر درويش، على أي صفة غنائية مفردة. وبعد استشفاف مجموعة "توسيعات" لمعادلة الغنائية الملحمية من شعر درويش، وهي توسيعات تشكل "جزءاً لا يتجزأ من عمليات ولادة المعنى"، يخلص الناقد الى أنه "إذا كان ضمير المتكلم يهيمن على "فانتازيا الناي"، فلأن الموضوع الغنائي في أصفى وأوضح أشكاله هو ذاك الذي يتيح للنفس المفردة أن تتقدم في ميدان مفتوح على الذات والبوح الذاتي، من أجل تحديد فارق النفس عن نفسها كما يقول نيتشه... وفي كل حال، ليس في وسع الغنائية الملحمية إلا أن تضع الأنا في شبكة التاريخ"، خصوصاً وأن مشروع محمود درويش - وكما يعبر هو نفسه - يسعى الى "إطلاق اللغة الشعرية في أفق ملحمي يكون فيه التاريخ مسرحاً لمناطق شعرية فسيحة تتسع لتجوال غير محدود للشعوب والحضارات والثقافات، ولبحث عن عناصر الهوية الذاتية ضمن اختلاط وتصادم وتعايش الهويات". وعن علاقة الشعر بالطفولة، وبطفولة الشاعر خصوصاً، يكتب محمد لطفي اليوسفي، منطلقاً من مفهوم التماهي بينهما حيناً، ومن التماهي بين الكتابة واللعب حيناً آخر، ومما يمكن أن يأخذ الشعر الى حقل السيرة الذاتية للطفل من حين لآخر... وذلك كله في سبيل حداثة تجمع القديم والمعاصر، حداثة غير مشوّهة... حيث السؤال ممارسة طفولية، وحيث الطفولة إقامة في السؤال. فالطفل - في نصوص درويش - هو الذي يُشهر الأسئلة. وفي المدى الممتد - زمنياً - بين سؤال الطفل في المجموعات الشعرية الأولى لدرويش، وبين سؤال الطفل في "لماذا تركت الحصان وحيداً؟"، يرى اليوسفي كيف ينهض الشعر ليضطلع بأشد أدواره خطورة: الإشهاد على أن لا شيء كبُر فينا ومن حولنا غير أحزاننا وفجائعنا ومحننا، أو كيف يتنزل الشعر بوصفه نداء الحرية، حيث الكتابة فعل تحرير لما يظل مصادَراً مغيَّباً في ذواتنا ونصوصنا. أما محمد جمال باروت، فإنه يضطر - في سبيل مقاربة "الرمزية" في الشعر الفلسطيني عموماً، وفي شعر درويش نموذجاً - الى تمييز وتعريف المدرسة الرمزية، وذلك انطلاقاً من العلاقة الخاصة التي نشأت بين هذه المدرسة وبين الشعر، وصولاً الى مفهوم الرمز الديناميكي وتجليه في شعر درويش. وإذا كان نشوء مفهوم القصيدة - الرؤيا قد تم في إطار استيعاب معطيات النموذج الرمزي، فإن الرمز الديناميكي - بحسب المدرسة الرمزية - وهو ما تسميه الحركة الشعرية العربية، كما عبرت عنها مجلة شعر، ب"الرؤيا". والعلاقة بين المدرسة الرمزية والقصيدة - الرؤيا، هي ما نعرفه من علاقة بين الرمز والحدس. وليس الرمز الديناميكي كلمة أو فكرة أو صورة. إنه "حركة خالقةٌ، أطرافُها هي الحلم والذكرى والإحساس والمماثلة. وهو - بكلمة - رمز رؤيوي بالضرورة. وقد استوعب درويش الفهم الرمزي المدرسي المنمذج للرّمز الديناميكي وتخطاه في آن. وتتجلى خصوصية اختبار درويش لهذا الرمز في تحويله إياه الى نمط أعلى يعود بالذات الوطنية الجمعية الى منابعها الكنعانية الأولى... فهو الشاعر الذي يختزن الروح الجماعية لقومه، ويرتاد آفاقها ويستشرف مصائرها، من داخل المعاناة الكيانية لوجودها، ومن هنا فهو يُكَنْعِن قومه بقدر ما يعمل على فَلَسْطَنَةِ كنعان، خصوصاً من خلال "أسطرة" يوم الأرض الفلسطيني، ومن خلال أسطرة الأرض نفسها وفلسطنة الأسطورة، حيث الأرض وعاء لهوية وجلد لروح. وبهذا، فالشاعر هنا لا يعبر عن روح شعب بقدر ما يخلقها. وفي مرحلة من شعره، تغدو عبارة "أنا الأرض" تحويلاً وامتصاصاً لعبارة الحلاج أنا الحق، وتكون ل"أرض من الشهوات" دلالة عشتارية أو عناتية، ويتخذ الأب صورة المسيح، ويمتص الهدهدُ الدرويشيُّ الهدهدَ القرآني ويحوّله،... ولهذا فإن الرموز الديناميكية الدرويشية تخلق نوعاً حديثاً وخاصاً من كنعانياذا فلسطينية، أي نوعاً من رؤيا ملحمية بطولية فلسطينية تضيء وفق قانونياتها الديناميكية، التي هي قانونيات تكثيف وإزاحة وتعيين لدلالات مفتوحة في الرمز الواحد نفسه، كفاحَ الشعب الفلسطيني، واستعادته هويته، وتشبثه بأرضه... وليس درويش هنا سوى شاعر رؤيوي ملحمي لهذه التجربة المكافحة...إلخ. ويعرض الناقد محمد عبد المطلب شعر درويش على مفهوم "التجربة"، الذي جاءت به الرومانسية، ليوضح أن شعرية درويش لا تقبل التعامل مع هذا المفهوم إلا في بداياتها الأولى، وبشيء من الحذر. ولهذا يقترح الناقد بديلاً لمفهوم التجربة هو الموقف الذي ينطوي على معطيات دلالية تؤكد صلاحيته للتعامل مع شعرية الحداثة عموماً، وفي مقدمتها شعرية درويش. ولكن بعض شعر درويش يأبى الاندراج تحت الموقف، فيعرضه الناقد على مصطلح الحالة التي تنتمي للداخل انتماء مطلقاً... وهذا المصطلح يرتبط بمصطلح المقام العرفاني. وينتقل الناقد، أيضاً الى "شعر اللحظة" الذي تتحول فيه اللحظة الى الملاحظة. وهكذا، فشعر درويش حلّق في الاتجهات كلها ولم يلتزم قانوناً يحاصر حركة شعريته ضمن قوانين "التجربة" أو سواها. ويتوقف الناقد محمد عصفور عند قصيدة مزامير"، ليقارن بين "الثائر الهارب" و"الثائر المقاتل"، عارضاً أزمة الشاعر الفلسطيني الذي غادر حبيبته "سواء أكانت وطناً أم امرأة". فقصيدة "مزامير" التي يشير عنوانها صراحة الى التوراة ويخلق علاقة معها ومع موروثها، علاقة هي محور من محاور القصيدة ومن محاور الحياة الفلسطينية لا يقول لنا الناقد ما نوع هذه العلاقة، وهذه مسألة تثير الأسئلة في تجربة درويش عموماً، ولم يتناولها النقد الى الآن، تُبرز في العديد من مقاطعها رغبة الشاعر القوية في تبرير خروجه من الوطن، بل انه لا يتورع عن رسم صورة هزلية لنفسه... والقصيدة، بعد تحليل مزاميرها السبعة عشر، تتناول الأزمة النفسية والفكرية والأخلاقية التي يعاني منها شاعر فلسطيني اختار في لحظة التاريخ المعاصر أن يخرج من وطنه، فاستعان بالسخرية وصوّر نفسه في حالتين، إحداهما صورة الذي كانت كلماته تربة وغضباً وحجراً وثورة، والثانية صورة الذي تحولت كلماته الى عسل فتجمع الذباب على فمه. ويتناول الناقد عبدالرحمن ياغي مرحلة النضج والتفوق في شعر درويش التي تمثلت في مرحلة المنفى خارج الوطن، فيشير الى ابتداع "شعر التسييس" بديلاً ل"الشعر السياسي" ومتقدماً عليه، خصوصاً في قصيدة "عابرون...". ويقارب الناقد أحمد خريس قصيدة "الهدهد" من خلال مقاربة لمرجعياتها ولتقلبات الدلالة فيها. المرجعيات متعددة لكن أهمها قصة الهدهد مع النبي سليمان كما وردت في القرآن وفي الكتاب المقدّس، وقصة الهدهد في كتاب "منطق الطير"، وكذلك في كوميديا "الطيور" لأريستوفانيس، وما جاء في الحكايات الشعبية والمرجعيات الدينية حول قدرة هذا الطائر على اكتشاف الماء في باطن الأرض، والتبصر، وخفة الحركة و... الجمال الشكلي. وفي الدراسة الأخيرة، يشتغل الناقد الدكتور ابراهيم أبو هشهش بمحاولة الكشف عن "المكون التناصّيّ في الصورة الشعرية عند محمود درويش"، باعتبار التناص "آلية من آليات حفريات النص المسيطر عليها منهجياً، وتقنية من تقنيات النقد التفكيكي". ويبين الناقد أن درويش قد استخدم آليات دمح تناصية متعددة كالاقتباس والتضمين والإحالة الى شكل أدبي، والبارادويا، والإذابة والامتصاص. ويعتبر الناقد أن آلية الدمج الأساسية التي ميزت الصورة الشعرية التناصية هي التذويب والامتصاص ثم انتاج صورة طازجة تترك مؤشراً سريعاً فقط على النصوص الغائبة. ومثل هذه الآلية حاضرة منذ بدايات درويش، ولكنها تكون ظاهرة حيناً، وعميقة خفية حيناً آخر. ففي قصيدة "بكاء" التي تُظهر تشكك الأنا - الشاعر في امكان تحوّل الدم الى وردة حيث البلبل النازف أو الأنا الشاعرة تنزف دم القلب دون يقين بأن تثمر التضحية... وكأن هذه الصورة تحيل الى قصة أوسكار وايلد الشهيرة "العندليب والوردة" حيث يجثم البلبل على شجيرة الورد ويترك شوكتها تنغرز في قلبه، فيسري دم قلبه في نسخ الشجيرة، وتتحول الوردة البيضاء الى وردة حمراء مدهشة، بينما يتصاعد غناء البلبل حتى الرمق الأخير. وفي مستوى أعمق، يكشف لنا الناقد ارتباط صورة من قصيدة الأرض هي ... القمم اللولبية تبسطها الخيل سجادة للصلاة السريعة / بين الرماح وبين دمي... ببيتَيْ الشعر الشهيرين لخبيب بن عديّ الذي أنشد وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة: :لست أبالي حين أقتل مسلماً على أي جنب كان في الله مصرعي وخبيب هذا هو الذي سنّ للمسلمين قَصْر الصلاة تقصيرها قبل القتل ومن هنا عبارة درويش "الصلاة السريعة" كما يرى الناقد. وعلى هذا النحو يكشف الناقد بعض مرجعيات الشاعر واعداً ومبشراً بقراءات معمقة وغير مسبوقة في إطار التناص. وتبقى عوالم درويش أوسع وأغنى من أن تفتحها هذه القراءات، كما أنها تتطلب المزيد من الجرأة على ارتياد آفاقها والكشف عن مرجعياتها، وربما كان الكشف عن علاقتها بالتوراة هو الأشد إلحاحاً، حيث ما تزال طبيعة هذه العلاقة وتفاصيلها تنطوي على ما يفتح المجال لقراءات واجتهادات كثيرة. * شكلت هذه الدراسات مادة الحلقة النقدية في مهرجان جرش السادس عشر/1997، وصدر الكتاب أخيراً عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 192 صفحة.