تتزامن مباشرة العماد إميل لحود مسؤوليات رئاسة الجمهورية مع عيد الاستقلال، ولذلك دلالات واعدة وإن كانت رمزية في بدايتها. قد يكون هذا التزامن مؤشراً إلى ان الرئيس الجديد سيجعل من الاستقلال استئنافاً لعطاء لبنان بدلاً من حصره في أطر ضيقة منغلقة على ذاتها، لا تعرف على مجالها الحيوي ولا تتعرف عليه وما يتمتع لبنان به من حضور في الذاكرة العربية كما في انتشاره العالمي. إن تزامن هذين الحدثين من شأنه أن يؤمن استقواء متبادلاً: رئاسة تحصن الاستقلال وذكرى استقلال تجعل الرئاسة موقع انطلاق لمبادرات خلاقة في مجالات السياسات الداخلية والعربية والدولية. وعلى رغم اني كنت أفضل مثلاً بقاء بطرس حرب مرشحاً وأن ينال اميل لحود أكثرية كبيرة ومن ثم يتم الاجماع، عندئذ تكون النتيجة بمنأى عن مقاطعة الغائبين وتذمر المدمنين على التصدي للشرعية السائدة في لبنان، وإن تضاءلت أعدادهم. صحيح أن طرح هذا الموضوع يعالج مسألة شكلية لكن الشكل في هذا السياق جزء من مشروعية النتيجة. صحيح أيضاً أن العماد إميل لحود كان أقوى المرشحين وقد لا يكون أوفرهم حظاً، بل أضمنهم وأسلمهم في الظروف الراهنة وفي المرحلة الانتقالية التي يعيشها لبنان. فهذه المرحلة تستوجب إحاطة دقيقة بتفاصيل التوازنات الستراتيجية المحيطة بلبنان اقليمياً ودولياً. هذا بدوره يفرض التوجه نحو حكم المؤسسات والاحتكام إليها وبالتالي نضمن للدولة مصداقية مغيبة وفعالية ناشطة. إن ما هو معروف عن الرئيس الجديد ان هذا هو توجهه، هكذا كان في الجيش والمأمول أن يكون هكذا في الرئاسة. فإذا تم ما نتوقع في هذا المضمار تكون رئاسة الجمهورية في لبنان استرجعت مرجعيتها وانتزعت احتراماً معنوياً ضامناً للرئاسة هيبة سياسية فلا تعود الحرتقات والمناورات ميزة ممارسة السياسة الحالية ويصبح التنافس قائماً حول أفضل الخيارات لربط الدولة بشرائح المجتمع المدني المطالب بحقوقه واستئناف لبنان دوره النهضوي في المجالين العربي والعالمي. من هذا المنظور يمكن ان نقول بأن الرئيس اللبناني الجديد يشكل ضمانة لسلامة الخطوات في ترتيب البيت اللبناني وتوفير نسبة معقولة من استقامة الأوضاع الاجتماعية بدلاً من الاستقطاب القائم بين الفقر المدقع وفحش الثروات الجديدة، وبعض القديمة أيضاً! يتبين لنا أن تبوء العماد إميل لحود سدة الرئاسة من شأنه أن يؤدي إلى جعل مؤسسة الرئاسة مرجعية يحتكم إليها المواطنون وليست أحد أطراف المثلث الذي أفرزته اتفاقيات الطائف والمسمى بالترويكا. وبرغم اننا لا نعرف عن الرئيس المنتخب إلا القليل، وهذا القليل يشير إلى كونه يرجح الوحدة الوطنية على مسلسل الوفاقات المتقطعة، وكونه يعتبر علاقة المواطن بالدولة، ترجمة لرصيده في إعادة بناء الجيش بشكل مباشر بدلاً من تحديدها من خلال الانتماء الطائفي، هذه الخلفية تجعله مؤهلاً أن يوجه السياسة العامة بعيداً عن حرتقات تطرح نفسها كونها "السياسة" في لبنان. نعود إلى السؤال الذي طرحناه في مستهل هذه العجالة، ألم يكن أفضل وأحكم لو اتيحت الفرصة لمعركة رئاسية من خلال تنافس شفاف الخاسر يصبح زعيماً للمعارضة أو رئيساً يتمتع بشرعية إضافية هي شرعية الموافقة بدلاً من أن ينتخب الرئيس وهناك في الباطن أو في العلن تساؤل عن ظروف الاجماع الذي كسره الامتناع. نقول هذا لأننا نرغب في أن يكون التفاف اللبنانيين حول الرئاسة والرئيس ناتج عن قناعة والتزام وأن يكون صادقاً ومستقيماً، لا كما الالتفاف حول الرؤساء السابقين موسمياً، متقطعاً، انتهازياً وفيه الكثير من النفاق والقليل من الاقتناع. من هذا المنظور على الرئيس الجديد أن يحدد معالم النظام بعقد اجتماعي متكامل يؤدي إلى أنماط جديدة في التعامل وخطاب سياسي يتجاوز منطق الطائفية وحدود الفكر المنغلق ويفتح أمام الناس مجالات الحوار لا على مستوى صانعي الرأي، بل وداخل أطر صنّاع القرار. فمثلما نطالب بتجسير الدولة مع المجتمع المدني هكذا أيضاً لا بد من إقامة علاقات جدلية بين الرأي والقرار. هذا التجسير وإنشاء علاقات جدلية في مختلف أجهزة الدولة والمجتمع يجعل الرأي أوضح وأفعل ويمكن القرار من تحصين ذاته ومحيطاً بما وفره الرأي والرأي الآخر من بدائل منبثقة عن الآراء التي عبرت عن ذاتها بحرية تامة. هذا بدوره يجعل القرار أكثر تجاوباً مع طبيعة التحديات الداخلية والخارجية، وبالتالي أكثر نجاعة في تسريع خطوات لبنان نحو الأفضل حيث ان الأمثل ان يتحقق في المراحل الانتقالية التي لا يزال لبنان فيها. يتبين لنا أن بعض المخاوف التي أبداها بعض اللبنانيين من اسلوب تأمين الاجماع لها بعض المبررات التي نرجو أن يتفهمها رئيس لبنان الجديد وأن يأخذ بعين الجد التحفظات التي أبداها عدد من المواطنين من موقع الحرص على ان يكون لبنان مثلاً يقتدى به بدلاً، كما كان في السنوات العشرين الأخيرة، تجربة المطلوب عدم تكرارها ونموذج على العالم اجتنابه. إن تفهم الرئيس الجديد لمغزى شكلية الاخراج من شأنه أن يعزز الرئاسة فحسب، بل أن تكون كلمة لبنان وفكر لبنان وقرار لبنان مشاركة في القرارات المصيرية التي يواجهها لبنان والوطن العربي. بمعنى آخر نعتقد ان دور لبنان في المجال العربي دور متميز في تسيير آليات التنسيق، كونه رداً حضارياً محتملاً على المشروع الصهيوني في المنطقة وكونه متأصلاً في عروبته ومسؤولاً عن صياغة عربية لموقف موحد تجاه حقوق الشعب الفلسطيني بشتى قطاعاته، خصوصاً قطاع اللاجئين وتركيزه على حقهم في العودة والانتماء القانوني لكيان فلسطين مستقل الذي يمنحهم الهوية التي تسهل لهم حقوق المواطنية الثابتة. وما دامت إسرائيل تحتل جزءاً من أرض لبنان، لا مفر من جعل هذا الاحتلال مكلفاً لها، وهذا ما تسعى المقاومة في جنوبلبنان القيام به. في هذا المجال وبالنسبة لما قام به الرئيس الجديد من إعادة تنظيم الجيش لا بد أن يعمل الرئيس لحود على إحكام التكامل بين المقاومة ومؤسسات الدولة حتى لا تبدو الدولة كأنها مبتعدة عن المقاومة المشروعة وان لا تتصور المقاومة ان شرعيتها تؤهلها الاستئثار باتخاذ القرارات. نستطيع القول إن مناسبة تبوء الرئيس لحود موقعه الجديد هي فرصة لتأمين الالتزام المتبادل الذي من شأنه أن يعطي الدولة مناعة في احتضان المقاومة ويعطي المقاومة مدخلاً ان تكون طليعة لإطار يشمل جميع اللبنانيين. إذا توفر مثل هذا التكامل بين الدولة والمقاومة يتم التجسير المطلوب بين المجتمع المدني والدولة، وعندئذ يتحول لبنان إلى عامل فعال في مجالات التنسيق مع سورية الصامدة ومع الشعب الفلسطيني سحين اللاحسم في قيادته السياسية وفي المنهج التفاوضي الذي اختارته. إن ما كان يُعرف به لبنان أنه موقع تعريف وتعارف. في هذا الدور توجد فرصة سانحة ليحمل إلى العالم ترجمة عملية للمخاض الفكري والثقافي للشعب العربي، وأن يسهم في تعريف المعاناة والآمال والحقوق العربية للعالم بأداء داعم ومدعوم من الطاقات الفكرية الموجودة في أرجاء الوطن وفي المغتربات. هذا يعني ان لبنان بحاجة ماسة لتأكيد عروبته مثلما على العرب اجمالاً النفاذ إلى المعنى المتميز للبنان في حياتهم القومية وتطلعاتهم المستقبلية. صحيح أن مسلسل التوقعات من الرئيس الجديد قد تكون في حجم لا يتحمله لبنان في الأوضاع الراهنة، أو من صيغة المعادلات الاقليمية القائمة. إنه صحيح أيضاً أن لا نبالغ بحجم الطاقات اللبنانية في العطاء والابداع في لبنان، خصوصاً أن معظم مواطنيه لا يزالون يعانون من الارهاق والكبت والحرمان، مما يدفع البعض إلى التقوقع والانطواء على الذات، لكن تبدو هناك فرصة في تبوء الرئيس لحؤد سدة الرئاسة لنقد الذات، ومراجعة صريحة لبرامج الأداء الحكومي في السنوات الماضية منذ اتفاق الطائف، وإتاحة الفرص أمام المجتمع الأصلب أن يشعر بأن ما يقوم به من مجهودات في حقلي الخدمات ومناصرة قضايا حقوق الإنسان ومساواة المرأة وقضايا البيئة وغيرها من الشؤون والقضايا التي تؤول إلى تحسن حقيقي في نوعية الحياة. هنا تكمن معطيات التعارف بين العهد الجديد وطاقم كبير ومؤثر من الأدباء والفنانين والمفكرين والمهنيين والنقابيين والعاملين في المجالات الاقتصادية المتعددة. هذا التعارف يكون نتيجة حوار متواصل ومكثف لا أن يكون مقتصراً على علاقات موسمية ومناسبات اجتماعية وتأمين غطاءات متبادلة. إن دفع الخطاب اللبناني إلى أن يتحرر مما كان يسميه كمال جنبلاط بپ"التكاذب المتبادل"، كما عليه أن يتخلى عن كلمات مثل "العيش المشترك" وتصنيف اللبنانيين في إطر سميت خطأ بپ"اللبنانية" و"الوطنية"، كأن "اللبنانية" هي انطواء على الذات بدوافع طائفية وكأن "الوطنية" انفتاح على قضايا مصيرية في الأمة العربية وكأن لبنان ومشاكله ومعاناته وطموحاته ليست من صلب العمل "الوطني" إلا ثانوياً. صحيح ان هذا الانفصام بين "لبنانية" المواطنين و"وطنيتهم" لن يؤدي إلى مصالحة متجذرة، بل إلى سلم أهلي. حان الوقت لجذير هذا السلام القائم إلى لحمة في تحديد صورة الانتماء المباشر بدلاً من الانتماء من خلال هويات طائفية متخلفة وإن كانت متعايشة. إن عودة المرجعية إلى مؤسسات الدولة والمجتمع من شأنها أن تعيد إلى المرجعيات الروحية دورها التوجيهي والاخلاقي لدعم أسس المناقبية في علاقات الدولة مع المجتمع. لكن ان تصبح المرجعيات الدينية هي المانحة لوجهة سير السياسة العامة للبنان تنطوي على استمرار تأسيس الحياة العامة اللبنانية على مفاهيم ومصالح طائفية متعاونة أحياناً ومتنافسة في أكثر الأحيان. لكن لا بد في هذا الصدد من التنويه بالأدوار الايجابية والبناءة التي رافقت تدخل رجال الدين من مختلف الطوائف بشكل دؤوب على احتواء العنف وزرع بذور أينعت في التعايش القائم الآن استناداً إلى القيم المشتركة. إن لبنان بحاجة إلى عطاء كي يأخذ بكرامة. إن لبنان بصدد أن يؤكد لذاته أن عولمة القضايا مثل البيئة وحقوق الإنسان والمعونات من أجل التنمية المسند عليه نوع من التنحي عن "السيادة المطلقة" كي يؤمن للبنان استقلالاً حقيقياً يحترمه العالم ويسانده ويوفر الاحتضان والمساندة لنموه وتقدمه. السيادة ترافق الاستقلال لكن السيادة المطلقة تنفيه وفي كثير من الحالات تلغيه. السيادة المطلقة تتوجه إلى الغرائز البدائية - الطائفية والعرقية والمذهبية، في حين ان المفهوم الصحيح للاستقلال يعيد العقلانية الهادفة إلى تحمل مسؤولية التصرف والحكم والتشريع وتوفير العدالة والحرية. ولئن وجدنا في تعريف الاستقلال نوعاً من الاجترار، إلا أن مفاهيم السيادة المطلقة والاستقلال أصابهما الكثير من التشويهات مطلوب تصحيحها وتجاوزها بنفس الوقت. إن ما لاقاه الرئيس المنتخب من ترحيب على كافة الأصعدة، يرتبط ببرامج وخطط موثوقة نابعة عن صلابة في المواقف المبدئية والتزام واضح في ثوابت لبنانية وعن مرونة في تعاطيه مع الواقع ومع المتغيرات. هذا ما يفسر الاطمئنان إلى سلامة المرحلة الصعبة المقبلة. إن لبنان بحاجة ماسة إلى هذه الطمأنينة كي يعاود عطاءاته وأن يوسع رقعة اهتماماته وأن يخرج لبنان من كونه كياناً متعدد المشاكل إلى كونه قضية قادرة على اثراء حضارة القرن المقبل. * مدير مركز دراسات الجنوب في الجامعة الاميركية في واشنطن