كانت تلك أول حركة في اتجاه تكريس نوع من السلم العالمي. قبل ذلك كانت المشاريع السلمية إما من صياغة الفلاسفة كانت على سبيل المثال، وإما من بنات أفكار الجمعيات والاحزاب المناهضة للحروب. ونادراً ما كان الأمر يتعلق ببعد عالمي للسلام، في زمن كان من الواضح فيه ان تشابك الاحداث واختلاط مصالح الدول أمور من شأنها ان تجعل السلام العالمي ابعد منالاً. ومن ناحية ثانية كان ذلك أول خروج سلمي للولايات المتحدة الاميركية في اتجاه العالم هي التي كانت قد دخلت العالم، حربياً، من خلال مشاركتها وانتصارها في الحرب العالمية الأولى. ولعل تلك المشاركة وذلك الانتصار ما حفزها للبدء بلعب دور يطلق عليه في أيامنا هذه اسم "السلام الاميركي". وهذا هو على أي حال فحوى مشروع الرئيس ويلسون للسلام، المشروع الذي حمله الرئيس الأميركي وراح يدور فيه في انحاء العالم كافة محاولاً ان يجعل منه نوعاً من دستور دولي، كان هو على أي حال الممهد للمشاريع اللاحقة التي قامت عليها "عصبة الامم" ثم لاحقاً "منظمة الاممالمتحدة". الرئيس الاميركي ويلسون قدم مشروعه للكونغرس، قبل ان يبدأ بتسويقه في كافة انحاء العالم، يوم الثامن من كانون الأول 1918، أي قبل شهور من انتهاء الحرب العالمية الثانية، وفي وقت بدا فيه من الواضح ان كفة انتصار الحلفاء في تلك الحرب باتت مرجحة، وأيضاً في وقت كانت فيه روسيا قد خرجت من الحرب إثر ثورتها البولشفية. وكان مشروع ويلسون للسلام يرتكز الى مبدأ حق الشعوب كافة في تقرير مصيرها، اضافة الى ضرورة ان تقبل جميع الأمم بنزع السلاح، ومن ثم تعهد الى تشكيل ما سمي يومها بپ"عصبة الامم" تكون مهمتها حل كافة الصراعات القائمة بين دول العالم بالطرق السلمية والديبلوماسية... الخ. يتألف مشروع ويلسون من النقاط التالية: 1- نشر واذاعة تفاصيل المفاوضات ومعاهدات السلام. 2- حرية الملاحة للجميع في المياه الدولية. 3- حرية التجارة بين كافة الدول التواقة للسلام. 4- ألحد من ضمانات التسلح. 5- التسوية غير المتحيزة لجميع التطلعات الكولونيالية. 6- إخلاء كافة الأراضي الروسية وحل كافة المشاكل المرتبطة بها. 7- اخلاء بلجيكا من الاحتلال واستعادتها لسيادتها. 8- تحرير فرنسا، التعويض على خسائرها، وإعادة اقليمي الألزاس واللورين اليها. 9- تعديل الحدود الايطالية على طول المسافات التي تفصل ايطاليا عن الدول المجاورة لها. 10- استقلال شعوب الامبراطورية النمسوية - الهنغارية. 11- اخلاء رومانيا، صربيا، والجبل الأسود، وتمكين صربيا من الوصول الى البحر. 12- تبقى الامبراطورية العثمانية محصورة داخل الأراضي التركية وحدها، حصول الامم العثمانية غير التركية على استقلالها الذاتي، وفتح المضائق امام الملاحة الدولية. 13- انشاء دولة بولندية وتمكين هذه الدولة من الوصول الى البحر. 14- انشاء عصبة للأمم، تضمن الاستقلال السياسي ووحدة الأراضي لجميع الدول. نعرف طبعاً ان مشروع الرئيس ويلسون هذا، قد أثار في حينه حماس الكثير من الشعوب، ولا سيما في منطقة الشرق الأوسط، حيث كان من الواضح ان المشروع الاميركي يسير عكس ما كان يستعد البريطانيون والفرنسيون لفرضه بعد انهيار القوات العسكرية العثمانية. ومن هنا فإن العديد من القوى السياسية العربية سارعت الى احتضان المشروع متعلقة بأهدابه محاولة الاستناد اليه للوصول الى الاستقلال بعد ان بات من الواضح لها، أن زوال السلطة العثمانية عن أراضيها لا يعني الاستقلال بل حلول الانكليز والفرنسيين محل تلك السلطة. غير ان الاحداث التالية وضرورات التحالف الغربية جعلت الجزء المتعلق بالشرق الأوسط، على الأقل، من مشروع ويلسون، خبراً بعد عين، واجلت الاستقلالات العربية الى أجل غير مسمى، مما سمح لباريس ولندن بممارسة الانتداب على مجمل دول المنطقة، وظل العرب يذكرون مشروع ويلسون بالخير، ولكن نظرياً، دون ان يتاح لهم ان يستمتعوا بخيراته التي استمتعت بها، على أي حال، أمم عديدة.