لم يحظ سياسي عراقي بالشهرة التي حظي بها عزيز الحاج خلال فترة الستينات، وبالتحديد إثر انشقاق "القيادة المركزية" عن الحزب الشيوعي العراقي وكان على رأس الانشقاق ومن ثم اعلانها الكفاح المسلح ضد النظام، انطلاقاً من اهوار الجنوب ومستنقعاته الشاسعة. فعلى مدى تلك الفترة كان اسم عزيز الحاج، في العراق، مرادفاً لاسم غيفارا بامتياز، وكان الشيوعيون العراقيون، من أنصار القيادة المركزية، يتحدثون عنه لا باعتباره مجرد شيوعي ثوري حمل السلاح ضد السلطة، بل بوصفه قديساً، يتناقلون اخبار تنقلاته في أرياف الجنوب وطرق تخفّيه عن أعين رجال الأمن، بإعجاب مشوب بالرهبة. لكن عزيز الحاج، تلك الاسطورة التي ادهشت وألهبت عقول وعواطف الشباب الشيوعي طوال فترة مليئة بالحماسة، لم يمت ميتة غيفارا لكي يجعل اسطورته تستكمل شروطها، بل انهار بطريقة مخزية على يد اجهزة الأمن في اواخر الستينات، منهياً بذلك المثل الاسمى والأعلى لانتفاضة الاهوار الجنوبية الشيوعية الفريدة، وواضعاً تلك التجربة، التي علق عليها الآلاف من الشيوعيين العراقيين، آمالهم وأحلامهم، في حضيض الانكسار والهزيمة، عندما ظهر على شاشة التلفزيون وهو يدلي باعترافاته ويعلن عن ندمه وتوبته. هكذا سقط غيفارا العراق في تلك الامسية التلفزيونية، مثل نيزك من سماء بعيدة فتحول بسرعة البرق الى رماد، الا ان ذلك السقوط لم يكن هزيمة شخصية أبداً، مثلما لم يكن ذلك "الانتصار" الذي سجلته سلطة البعث في عامها الأول بالحكم، انتصاراً عابراً على شخص اسمه عزيز الحاج، فبعد اسابيع قليلة من اعترافاته التلفزيونية لا يُعرف حتى الآن شيء عن اعترافاته داخل اقبية الاجهزة الأمنية! شنت السلطة حملة شعواء ضد كوادر وأنصار القيادة المركزية، فاعتقلت المئات وانهار غالبيتهم تحت وطأة انهيار عزيز الحاج، ثم قتلت بالرصاص في الشوارع عددا من ابرز الكوادر ممن حاولوا الافلات من كماشة الانهيار والسقوط. وأخيراً شنت حملة مسلحة على بقايا قواعد القيادة المركزية في معقل الكفاح المسلح بالأهوار، وأنهت بذلك آخر فصل من فصول تلك التجربة الثورية الفريدة في تاريخ النضال السياسي العراقي. ولقاء الخدمة التي لا تقدر بثمن، عينت السلطة عزيز الحاج ممثلاً للعراق في احدى منظمات الأممالمتحدة، وكان بذلك أول وآخر من حظي بمثل هذا التكريم من سلطة دموية درجت على ذبح معارضيها حتى لو قدموا لها كل ما تريد. وظل عزيز الحاج في وظيفته الرفيعة طوال العشرين سنة التي تلت ظهوره على شاشة التلفزيون مدلياً باعترافاته ومعلناً ندمه على رفع السلاح في وجه السلطة، وهي حقبة عاصفة في حياة العراق بلداً وشعباً، فخلالها بدأت وانتهت الحرب مع إيران، حاصدة مليون إنسان عراقي بين قتيل ومعوق ومفقود، وقبل الحرب وفي اثنائها قام النظام بتهجير عشرات الآلاف من العراقيين بحجة التبعية الإيرانية، ورمى بهم على الحدود بعد ان استولى على بيوتهم وممتلكاتهم. وبعد ذلك غزا النظام الكويت وتسبب في حرب كارثية اعادت العراق الى الوراء عشرات السنين ولا يزال الشعب العراقي يئن من وطأة الجوع والعوز من آثار تلك الحرب، وبين هذه الكارثة وتلك، حصدت سياسة النظام القمعية الاستبدادية حياة الآلاف من المعارضين كما حصدت حياة الآلاف من غير المعارضين، ممن قصفتهم طائرات النظام بالأسلحة الكيماوية في كردستان والاهوار. ومع هذا كله كان عزيز الحاج في غيبة فريدة من نوعها مثل فرادة ظهوره على شاشة التلفزيون، فهو لم يدل بشيء، ولم ينطق بكلمة حق او باطل طوال العشرين سنة الماضية، وكان يمكن له ان يواصل هذا الغياب عن المشهد العراقي الدامي، خاصة وأن جسامة الاحداث التي عاشها العراقيون كانت محت صورته وأسطورته الرديئة من الذاكرة الشعبية، لكن الذي حدث ان عزيز الحاج عاد، متأخراً جداً، ليدلي بدلوه في تلك الاحداث الجسام، وهو امر كان يمكن، ايضاً، ان لا يثير غير دهشة بريئة او دهشة من يرى جسداً ميتاً يتحرك ثانية. الا ان متطلبات الحاج تبدو أبعد من هذه المساهمة المتواضعة. انه يريد كما يبدو ان يعتلي خشبة المسرح ليلعب دوراً بطولياً، بعد ان ظل متفرجاً ساهياً طوال فصول المأساة العراقية، فقد نشرت "افكار" - "الحياة" عدداً من المقالات لعزيز الحاج تناول فيها ظواهر اجتماعية وسياسية، لكن مقاله "الأكراد الفيليون الشيعة - مأساة عراقية يلفها النسيان" المنشور في افكار 20 كانون الأول/ ديسمبر 1997 يمكن اعتباره نقلة نوعية في كتاباته. فهذا هو المقال الوحيد الذي يدافع فيه الحاج عن ابناء جلدته الأكراد الفيلية، بل يغمز من قناة السلطة التي هجّرتهم "بالقوة وبأبشع الأساليب في اوائل السبعينات" كما يقول. والدهشة هنا لا تتعلق بموضوع المقال، فالدفاع عن انسان او شريحة من البشر تعرضت لظلم او اضطهاد هو واجب مقدس لأي انسان، فكيف بسياسي ثوري سابق! يعمل في منظمة الأممالمتحدة للثقافة والعلوم؟ لكن الامر يتعلق بالتوقيت وبتلك الاسئلة التي يثيرها: ترى كيف تذكر عزيز الحاج عملية تهجير الأكراد الفيلية بعد سبعة وعشرين عاماً، فكتب عنها مقالاً ثورياً ساخناً؟ هل كان في غيبة، ام كان مخدراً كل هذه السنوات؟ اكان ممنوعاً ام ممتنعاً عن التضامن مع ابناء جلدته الذين "سُبيت عوائلهم - كما يقول - ونهبت ممتلكاتهم وسيق الآلاف منهم غدراً وبلا انذار لتشريدهم على الحدود والبرد وليموت المئات في حقول الألغام او من الجوع". هل صحا عزيز الحاج من النوم، مثلاً، فوجد نفسه بقدرة قادر، مدفوعاً للكتابة عن الاكراد الفيلية، وأين كان الحاج عندما قصف النظام اكراد حلبجة بالاسلحة الكيماوية وقتل منهم الآلاف نساء وأطفالاً وشيوخاً، وهل هؤلاء اكراد من نوع آخر غير الأكراد الفيلية؟ وأخيراً هل يعتقد الاستاذ عزيز الحاج ان الاكراد الفيلية لا يزالون، بعد سبعة وعشرين عاماً، ينتظرون منه كلمة تضامن سحرية؟ للاجابة عن كل هذه الاسئلة أقول انني قد احسد عزيز الحاج على هذه الذاكرة التي تشبه ذاكرة الروبوت، لكنني على يقين من ان احداً من الاخوة الاكراد الفيلية، الذين تذكّرهم الحاج، اخيراً، لم يكن لينتظر منه مقالاً تضامنياً بعد كل هذه السنوات العجاف، التي عاشوا خلالها معاناة التهجير والتشرد والحرمان من وطنهم الأم، فيما كان الحاج ممثلاً للسلطة ذاتها، المسؤولة عن كل هذه المعاناة والآلام. ترى من أين بزغت تلك الحمية المتأخرة من قلب الحاج العطوف، وماذا اضاف للحقيقة المريرة التي يريد ان يبدو وكأنه يكتشفها لنا في غفلة من الزمن؟ لقد كان على عزيز الحاج والعديد من امثاله، ممن اكلوا من صحن السلطة الارهابية سنين طويلة، ويريدون اليوم ان يضربوا بسيف المعارضة، ان يدركوا ان ذاكرة العراقيين، وهي كل ما تبقى لهم بعد هذه المحنة، لن تشوشها مقالات صحافية تنشر هنا وهناك لكي تُظهر اصحابها في ازياء لم تكن ولن تكون على مقاساتهم.