لسنا بالطبع من دعاة نسيان السجل الدموي الحافل للنظام تجاه الاكراد والذي مثّلت الحرب العنصرية البغيضة وعمليات الانفال والسلاح الكيماوي بعض فصوله البارزة، ولسنا من المتفائلين بأي تقدم محتمل في عقلية النظام. ولذا لا موجب لأدلجة واقعة الحوار بين الاطراف الكردية والنظام او حملها على اي محمل استراتيجي، لأن النظام نفسه لا ينظر الى الحوار والتطبيع مع الاكراد الا من زاوية إحداث شرخ آخر في طوق العزلة الذي كان عام 1990 يحيط به احاطة السوار بالمعصم ثم توالت عليه الشروخ عربياً ودولياً وأخيراً كردياً. مهما يكن من امر فان ثمة جملة حقائق وتحديات لا بد للمفاوض الكردي ان يراها بعين ثاقبة بعد مرور 27 عاماً على أول حوار مع النظام ذاته وانقضاء ستة اعوام على القطيعة بشكل او آخر منذ الحوار الاضطراري عام 1991 الذي عصفت به تطورات لاحقة معروفة: 1 - تشير كل الشواهد الى ان الحزبين الكرديين يتوجهان انفرادياً الى النظام، وهذه ورقة تفاوضية قوية له ويستطيع بها الاصرار على السقف الذي يريد من المطالب الكردية لأنه اصلاً يواجه جداراً كردياً مثقوباً يمكنه التسلل من خلال مساماته بيسر. فكم كان حرياً بالاطراف الكردية ان تقفز على جبل مشاكلها ومشاغلها الذاتية لبلورة القرار الوطني الاستراتيجي الكردي الموحد، لعدم تفويت البديل بعد ان تم الاجهاز على ثلاثة أرباع الانجاز التاريخي لشعب كردستان العراق بفعل مشروع الانتحار الذاتي ولجوء الاتحاد الوطني الكردستاني الى الانقلاب على الشرعية عام 1994 وما تبع ذلك من انهيارات ما زالت مستمرة. 2 - ان الارث التفاوضي الكردي مع النظام لا يدع مجالاً للشك في ان الاخير لا يملك أية مرونة او شفافية في التواصل مع الآخرين. فهو يطرح قوالبه النظرية وطروحاته التي يراها مسلمات أبدية غير قابلة للتغيير ويرى مجمل ممارساته السياسية باعتبارها بديهيات. وهنا يتحول الحوار الى ادعاء سلطوي بعودة شرائح وطنية الى الصف الوطني اكثر من كونه عملية اخذ وعطاء بين طرفين ندّين يحتفظ كل واحد منهما بأوراق قوته تجاه الآخر، لذا على المفاوض الكردي ان يتحاشى منذ البدء هذا المطب وأن يوظف عوامل قوته ليطرح ما يراه مناسباً، مع مطالبة النظام بأحداث تغيير سلوكي وفكري في نظرته الى القضية الكردية في العراق الحائزة الآن على بعد دولي، وإفهامه انه ما زال معزولاً عن المجتمع الدولي وان طريقة حكمه الديكتاتوري لا يمكن ان تفتح اية كوة امل لحل مرضٍ للمعضلة القومية او لأزمة الحكم. 3 - من حق الاكراد التأكيد على مبدأ انهم ليسوا جسراً يعبر عليه الآخرون وانهم ليسوا ثواراً تحت الطلب تجسيداً لهويتهم الوطنية العراقية، ولكن لا يجوز الافراط في تفسير هذا المبدأ الى حد التفريط بما لا يجوز التفريط به لأن ذلك يهشم القضية الكردية اكثر ويقزم آفاق تطورها. فهذا المبدأ لا ينبغي ان يؤدي الى الامتناع عن المطالبة بالديموقراطية باعتبارها شأناً عراقياً لا كردياً محضاً، فهي شأن عراقي وكردي ما دام الاكراد لا يخرجون في سقفهم المطلبي عن حل في اطار الكيان العراقي. ويبقى حل القضية الكردية مرتبطاً بالتقدم الحاصل في ملفي الديموقراطية وحقوق الانسان. كما ان المبدأ ذاته يجب ان لا يجر اي طرف كردي للانخراط في دفاع غير مبرر عن النظام في وجه المجتمع الدولي ومجمل المنظمات الحقوقية العالمية وقوى التحرر والديموقراطية والأمم المتحدة التي تطالب بالتغيير الديموقراطي في العراق. 4 - ثمة بنود عقدية عالقة اصطدمت على الدوام بالنهج الشوفيني للنظام العراقي ومنها حدود المنطقة الكردية حيث يصر النظام على تعريب اجزاء منها، ومدى حرية النظام المركزي في ممارسة نشاطه لو اتيحت له العودة، وطبيعة العلاقة بين السلطتين المركزية والاقليمية. فالمعلوم ان النظام يحاول منذ 1974 الترويج لبرنامجه في تطبيق حكم ذاتي اداري لا صلة له بركني الشعب والاقليم ويفتقر الى طابع تشريعي سيادي، كما ينحصر اداؤه في الجانب التنفيذي. ومع اقرار البرلمان الكردي الفيديرالية عام 1992 كأسس لتكييف العلاقة المستقبلية بين الشعبين العربي والكردي في العراق اصبحت هذه الاشكالية اكثر تعقيداً لعدم اعتراف النظام باعلان الفيديرالية، ما يعني مضاعفة متاعب المفاوض الكردي الذي سيجد صعوبة قصوى في التخلي عن قرار مهم يشكل حصيلة ارادة سكان الاقليم الكردي العراقي لأنه من القرارات التي صدرت اثناء الوفاق الوطني الكردي. 5 - رغم كل غيوم الاقتتال الداخلي المكفهرة تبقى المنطقة الآمنة لجهة الحريات الديموقراطية متميزة في مواجهة القمع الضارب الاطناب على كل جوانب حياة الانسان العراقي في وسط العراق وجنوبه. ونعني هنا قوانين المطبوعات وتأسيس الاحزاب والجمعيات وحرية التعبير والصحافة والاجتماع والسفر وما شاكل ذلك من المظاهر التي ما زالت بعيدة المنال في انحاء العراق الاخرى، في حين انها تمارس بشكل ما في كردستان العراق. وهنا لا بد من التأكيد على ان سحب هذه المظاهر في كردستان على باقي العراق تفويت للفرصة على النظام لمحاولة عكس المعادلة. هذه مجرد عينة من التحديات التي تقف في وجه حوار اراده الاكراد مع نظام لم يتعود على طقوس الحوار واستمزاج الآراء والاعتراف بالآخر.