جمعني عشاء بصحافي بريطاني يعمل في صحيفة "ديلي تلغراف" وكان حديث الساعة يومها توقيف نجل أحد الوزراء في حكومة توني بلير العمالية بتهمة الاتجار بالمخدرات، لذلك كان من الطبيعي ان أسأله عن التفاصيل فوجدته يعرف الدقائق بالأسماء والتواريخ. واستغربت الأمر من واقع حسي الصحافي وسألته: كيف يمكن لصحافي ان لا ينشر مثل هذه المعلومات التي يملكها ويتأكد منها بالوقائع الدامغة؟ وكيف يمكن لصحافة راقية في بريطانيا العريقة بديموقراطيتها والمتفاخرة بها ان تتجاهل مثل هذا الأمر وتمتنع عن نشر تفاصيل مثيرة يمكن ان تكون سبقاً صحافياً أو ان تضاعف بسببها أرقام توزيعها؟ التفت الصحافي الصديق وقال لي بأسلوبه الانكليزي البارد والمتحفظ والساخر في آن واحد: وهل تريدني ان أتسبب باقفال صحيفتي أو تعريضها للمحاكمة؟ اتسعت مساحة دهشتي واستغرابي لهذا الرد من صحافي يعمل في بلد الحريات المطلقة وقلت له بطبيعتي العربية الحارة والمنفعلة: ولكن يا عزيزي، أين اذن تلك الحريات التي تتشدقون بها ليل نهار؟ وأين حرية الصحافة وحق الاطلاع؟ لم يغضب الزميل الانكليزي ولم تستفزه أسئلتي الساخرة بل رد علي مرة اخرى بأسلوبه الانكليزي البارد قائلاً: يجب ان تفرق بين الحرية والقانون والنظام، تنتهي حريتك عند حدود القوانين والنظام العام ومصلحة الوطن. فما دام القانون قد منعنا من النشر فما علينا سوى الرضوخ حتى من دون ان نعرف الأسباب، وكم من مرة طبق القانون بحقنا والتزمنا به على الطريقة العسكرية: نفذ ثم اعترض على رغم معارضتنا وشعورنا بالغبن. ولكن القانون قانون، أمره مطاع، والحرية مقدسة شرط ان لا تتجاوز القوانين. ملاحظة مهمة: منع النشر لم يصدر لأن المتهم ابن وزير بل لأنه قاصر عمره 17 سنة! شعرت بالخجل من هذا الرد المفحم الذي بدا وكأنه حولني الى تلميذ مبتدئ في مدرسة الديموقراطية الحقة. فقد أعجبت به لأنه ذكرني بتجارب مريرة مررنا بها في عالمنا العربي تارة بسبب القمع والمنع والردع وتارة اخرى بسبب الفلتان واستغلال الحريات للقدح والذم والطعن بالآخرين والاساءة للناس واثارة الفتن في الأوطان وافتعال الأزمات لاستغلال العملاء والطابور الخامس لحرية الاعلام، أو لتحويل هذا الاعلام الى كباريه أو الى ساحة للانحراف والفلتان الأخلاقي… وكم من الجرائم ارتكبت باسم الحرية! وكان القضاء البريطاني منع نشر اسم الوزير وابنه الذي وقع في فخ صحافية بريطانية تعمل لصحيفة "ديلي ميرور" طلبت منه بيعها كمية من القنب الهندي الحشيش بعشرة جنيهات استرلينية من دون ان يعرف هويتها. وأثارت الصحيفة الفضيحة وأبلغت الوزير الذي اصطحب ابنه بنفسه الى مركز للشرطة ليعترف بفعلته. وبعد نشر اسم الوزير في صحيف اسكوتلندية سمح القضاء بنشر اسمه فتبين انه وزير الداخلية جاك سترو الذي كان أكبر داعية لمكافحة المخدرات ولا سيما في صفوف المراهقين. كما وبخت الصحافية لأنها خالفت القوانين واشترت مخدرات، مهما كانت مبرراتها وكانت تهمتها تشجيع الاتجار بالمخدرات. وكان الاعلام البريطاني قد تبنى مدونة سلوك تتضمن مقاييس قاسية بالنسبة الى حرية الاعلام ولا سيما بالنسبة الى الحريات الشخصية وحياة المراهقين وأساليب النشر. وما علينا الا ان نتعلم هذا الدرس المعبر وان نعترف بأن الحرية شيء والقانون شيء آخر… وان الحرية ليست فوضى بل رسالة ومسؤولية واحترام و… حب للوطن!
لقطة: من شاتوبريان الى العرب: الارادة التي لا تنثني تعلو على كل شيء، ومن اتيان جلسوت: ليس من الصعب ان تعثر على الحقيقة، ولكن المشكلة الكبرى هي ألا تحاول الهرب منها اذا وجدتها!