اذا كان الشعر عملاً في اللغة واستلهاماً للغنائية، فهو عند سليم بركات الحفر في اللغة من اجل اللغة، وهذه لذّة لا نصادفها كل يوم ولا نجدها في كل كتاب. اللذّة اللغوية التي يثيرها سليم بركات في القارئ هي لذّة التنقيب داخل الكلمة حتى ازعاجها ومضايقتها. انه ينقب في جوف الكلمة حتى التخوم الأخيرة، او لنقل ما بعد الأخيرة وما قبلها، لأن ما يصل اليه بركات ليس منتهى الكلام انما ما يتجاوزه حتى العري التام. لا يصل سليم بركات الى تخوم الكلمة، إذ هي في تحدٍ دائم معه وهو في شغف المتابعة حتى الجنون، جنون اللغة، والشاعر يصوغها كمن يمتلك السلطة المطلقة إزاءها. وتعني السلطة هنا الوعي العميق للفعل الكتابي الذي يمارسه بركات كمن يريد هدم ما هو في صدد انشائه. الكتابة هنا ليست في البحث عن الصورة الشعرية انما عن ماهيتها. والكتابة لدى سليم بركات حرب يشنّها على كل كلمة، إلغاء الصورة من اجل تكريس الفعل الكتابي في عريه القاسي، في تجريده من اجل الوصول اليه، من اجل اكتشاف الكلمة الصميمة. يمارس شغفه باللغة من خلال محاولته قتل اللغة، اي تفريغها وإعادة تكوينها الى ما لا نهاية. وهو يتوجه الى الوقت او الى الظرف المكاني بلهجة فريدة، فلا ينحو منحى الحنين الرقيق او الشفاف والكئيب، بل يفجّره بكل ما يملك من طاقة صدامية، بكل ما يحمل من قسوة. وكأن سليم بركات المتواري دائماً خلف الألم ليقول ما بعده وما قبله، يلعب لعبة المواربة لا من اجل التهرّب او التجنّب، انما من اجل القبض على حقيقة المعنى في مكمنه الصحيح. هذا هو العري الذي يمارسه الشاعر هنا، العري الذي لا يشبه الحقيقة فقط، بل عدمها! ما يمارسه سليم بركات هو تكريس حقيقة الريبة حين الشاعر وشعره يدخلان في سباق مع جنون اللغة، مع تطرّفها، حين يدخلان في متاهة اللذّة، أعني متاهة الجحيم: "النهار عائداً من جهالته الهندسية، ممتلئاً، وثبة بعد اخرى، بطباع الأكيد يفترش الأكيد". هذا الجحيم المتاهي، هذا الأكيد الذي يفترس الأكيد، هو صورة لما يقوم به بركات في العمل اللغوي لأنه يكتب الكلمة التي تفترس الكلمة لا الكلمة، الركن او الأساس التي عليها تبنى بقية الكلمات. حين يزعج سليم بركات اللغة، فهو يفعل ذلك ضمن تناقضات كثيرة، ضمن معانٍ متضاربة لأنه لا يكتفي بالاتجاه الواحد للفكرة انما يخصبها بكل ما يخالجه من صور متداخلة ومتنافرة في آن. انه الشاعر النافر والمستنفر بامتياز، إذ ما من كلمة تهدأ عنده وما من معنى يركن الى هدفه، بل الكل في اجتهاد دائم وفي صراع متواصل. بركات هو الذي يستنجد بالمجاز ولمّا الأخير يقوم بواجبه يعيده الشاعر الى ما قبل الكتابة او الى ما بعدها، الى الموت بعد الولادة مباشرة كي لا تستقر الصور ولا المعاني، وهكذا يرى الشاعر "عظام المجازات" تعود الى الفناء. إلا ان بركات لا يتوقف عند التخوم المعقولة اذ يعود ويرمينا في عتمة الأمكنة الكتابية، في القلق والارتباك. يلعب اللعبة الكتابية الخطرة حيث المعاني المتناقضة تدخل ذروة المفارقة والخدعة، "وترمى اليك عظام المجازات ... ينجد الهول الكلمات فلا تتعثّر بالمطلق مغمى عليه"، والقارئ هو المخدوع باستمرار، اذ كيف الهول هو الذي ينجد الكلمات، وعلى اي هول يتكلم الشاعر؟! واذا أنجدت الكلمات من قبل الهول فما علاقة هذا بتعثرها او عدم تعثرها بمطلق مغمى عليه؟ اذا حاولنا فهم هذا البيت او سبر اعماقه فلا يعني ذلك وجوب ايجاد الحل، لأن المحاولة هي ايضاً الإكتفاء في معناه النسبي بالإشارة الى تعثرنا بالكتابة، الى عصيانها وبنيتها في متابعة مغامرة التفكيك، متابعة الحرب المعلنة على ذاتها من قبل ذاتها. أعني بالتفكيك إرادة اللغة في تدمير ذاتها من خلال عنصر مهم في اسلوب بركات، وهو إرباك القارئ دائماً، ولا اقول مفاجأته، فالأخيرة اقل اثراً وتأثيراً من الاول، انه، اذن، بفعل إرباك القارئ، يربك اللغة لتتعثر الكتابة بذاتها ويبقى المعنى بعيد المنال مهما قلبنا البيت في كل الجهات. صحيح ان الشاعر اهتم بالوقت، إلا ان موضوع المكان طغى ايضاً على الكلام، فبركات مزج بين المعنيين جاعلاً من الثاني الحافز الأكبر للكتابة الزمنية، ومن الاول المحرّض الأهم في اثارة الحنين المكاني. لكن اي حنين هو هذا الذي يخالج بركات! وكأن الحنين تفرزه من شرايينها، القسوة والإرادة الصلبة في مجابهة مدمّرة مع اللغة! "...ما يؤخذ كما المكان هازلاً في المتاه. هيا: لا يؤتمننّ الجوهر، لا يؤتمننّ أزل يتسكع في المغيب". لقد جمع المعنيين في قالب واحد، في فكرة واحدة، ودلّ على ضآلة - عبث المكان هازلاً وعلى كثرته في آن المتاه، كذلك دلّ على ضآلة الوقت المغيب وعلى كثرته الأزل. وكالعادة، يأخذنا الشاعر الى المفارقات والمتناقضات التي لا أمل في حلّها بسهولة، ربما لأن "لا يؤتمننّ الجوهر". فالأخير ايضاً معرّض للتفكيك والتشكيك، والحنين كان في خدمة اللغة في اللعبة كلها والعكس ليس صحيحاً. اللغة لدى بركات، اذن، هي لعبة امتحان الشكل، امتحان الاسلوب، وهي جوهر الكتابة. والشكل، من جهته، يرمز الى عنصر المكان وليس الى عنصر الوقت، بينما الفعل الكتابي يرمز الى الوقت، في حين ان المعضلة تكمن في اننا لا نستطيع فصل الواحد عن الآخر: "مرايا طائشة تعيد اليك الشكل منقسماً على امتثاله الموحى، وكمال يلتهمك في وليمته الفاحشة يا وقت". هنا يلعب الشاعر لعبة المواجهة بين كمال الوقت، اي الأزل، وانكسار الشكل، اي المكان. المواجهة تحدث بين الشكل المنقسم والوقت المكتمل، اي بين الاسلوب الذي يتقدم نحو الشاعر مرايا طائشة متكسرة كالأمكنة المتشظّية في الذاكرة، والوقت الكتابي الذي يلتهم إرادة الشاعر وأسلوبه ومعناه. انه الصراع بين الكتابة والموت، بين أمكنة الذاكرة - شكل الكتابة - اللغة، والوقت القادم من عند الأزل والعائد اليه، لأنه رمز الفحش، فهو الذي يعدم ويلتهم. المكان في المقابل لا يستطيع ان يكون فاحشاً، المكان - الأسلوب هو التقشف، هو الصعوبة والتحدي، هو أداة محاولة البقاء في وجه الزمن المفترس. ولأن سليم بركات لا يركن الى كلمة ولا الى فكرة او صورة، فهو يحرّض دائماً وأبداً اللغة ليعود الى مأزق الكتابة، اي الى لذّتها، "عَرَض يتمادى، جوهر يتمادى: امهلها قلبي، امهل الفناء ريثما يستعاد الشكل الى مأزقه". كما نلاحظ، لا تخلو لغة بركات ولو للحظة واحدة من الارباك والازعاج، فهو يضع "العَرَض" في قلب "الجوهر" وتبدأ المشاحنة ثانية، وذلك في سبيل تجنّب الانتهاء، الراحة، الموت، الفناء. فالمأزق ضروري للإستمرارية، وقد يكون الركيزة الأساسية لإعادة الكتابة الى الحياة، اي الى رحابة اللغة.