في كتاب شعريّ واحد عنوانه «مثلي تتلألأ النّجوم» جمعت الشاعرة التّونسيّة آمال موسى دواوينها الشعريّة الثّلاثة السّابقة: أنثى الماء، خجل الياقوت، يؤنّثني مرّتين. وعنوان هذا الكتاب الشعريّ الذي جاء، إذا أخذنا بمصطلحات البلاغيّين القدامى «تشبيهاً مقلوباً»، يتجاوب مع ما جاء في المجموعات الشعريّة الثلاث من انتشاء بالذّات واحتفاء بقواها المبدعة. فكلّ قصائد الكتاب عبارة عن نشيد طويل تُزْجِيهِ الشاعرة إلى الأنثى من حيث هي جوهر يسري في كلّ الموجودات سريَانَ الواحد في كلّ الأعداد على حدّ عبارة الشيخ ابن عربِي. فالشاعرة في هذه القصائد لا تصف ولا تبوح ولا تعترف وإنّما تتعبّد وتبتهل وتصلّي معدّدةً آلاء الجوهر الأنثويّ، مستعيدة، على نحو خفيّ، كلّ الأناشيد الدينيّة القديمة التي تتغنّى بالمرأة، وتمجّد جوهرها الخالق. ففي قصائد آمال موسى شيء من نشيد الأنشاد، ومن أغاني عشتار ومن صلوات أوزريس لكأنّ هذه القصائد قادمة من زمن بعيد، زمن ما قبل الخطيئة، والإثم والعقاب: فالإنسان لم يخجل بعد من نفسه، والرّغبة لم ترتدّ إلى الدّاخل خائفة. فكلّ ما في هذه القصائد يعقد مصالحة مع الحياة، ويحوّل الشعر إلى جسر لاكتمال الارتواء لاكتمال الفرح. ما أشَدََ اِكْتِمالِي/ مَا أَعْمَقَ عِشْقِي/ بِلَّوْرِي نَفِيسٌ/ أَثِيرُ/ بِثَوْبِي خُيُول المَاءِ، مَا سِرُّ ارْتِوَائِي/. إنّ الشاعرة تلغي المخاطَب، تتحدّث إلى نفسها مباشرة، تتحوّل إلى ذات متكلّمة، وذات مخاطبة في آن، عنها يصدر الكلام، وإليها يتّجه، وتتحوّل القصيدة، تبعاً لذلك، إلى ضرب من المناجاة تزهو من خلالها الشاعرة بأنوثتها، باكتمالها بمواطن الجمال فيها بنبرة ابتهاج وفرح. فالمرأة لم تعد «موضوع» الرّجل تتناوله قصائده في أغراض شتَّى بل تحوّلت إلى «ذات شاعرة» تقول نفسها، وتفصح عن غائر مشاعرها دون وسائط: لَوْنِي المَاءُ/ وَجْهِي وَجْهُ البَسِيطَةِ سَاعَةَ الغُرُوبِ/ الشَّعْرُ ثَوْبِي المُلُوكِي/ الكَتِفَانِ وَكْرَانِ/ النَّهْدَانِ خَمِيرَةُ أَسْرَارِي/ الخَصْرُ كَوْكَبٌ يَدُورُ حَوْلَ غَزَالَةٍ/ اليَدَانِ جَرَّتَانِ مَسْجُورَتَانِ بالمَاءِ بِلَوْنِي/. لكنّ الشاعرة لا تزهو بأنوثتها فحسب بل تزهو على وجه الخصوص باستعادتها مملكتين اثنتين هما: مملكة اللّغة ومملكة الجسد. كلّ قصائد الكتاب تؤكّد، بطرائق شتّى، أنّ فعل الكتابة، فعل غزو وفتح عن طريقه تستعيد الشاعرة سلطانها وعنفوانها. فبامتلاكها الأسماء باتت قادرة على امتلاك الأشياء. فهذه الغنيمة المقدّسة التي أصبحت تقتسمها مع الرّجل ليست مجرّد أداة تمتلكها إلى جانب بقيّة الأدوات الأخرى وإنّما هي «تأسيس للوجود» و «إرساء للكينونة» يَا أَيُّهَا الشِّعْرُ الشِعْرُ/ أَمْنَحُكَ كُلِّي/ لِتَعُودَ حِكْمَتِي المَجْنُونَةُ/ يَا أَيُّهَا الشِّعْرُ الشِعْرُ/ فِي كَفِّي قَصِيدَةٌ فَكُنْ عَرَّافاً/ سَقَطَ ثَوْبِي/ بَيْنَ يَدَيْكَ/. إنّ الشعر أصبح في هذا السياق الاسم الآخر للحريّة، والحريّة تتجلّى أقوى ما تتجلّى في تعامل الشاعرة مع اللغة في طرائق تشكيلها، وبنائها. فبالشعر تستردّ الشاعرة حريتها، وتؤسّس وجودها... لكنّ الشعر، كما أشرنا سابقاً، ليس استرداداً لمملكة اللغة فحسب وإنّما هو استرداد لمملكة الجسد أيضاً. فهذا الجسد الذي غيّبته عصور من القهر والقمع يعاود الظهور من جديد، يعلن عن حضوره، ويمارس سلطته لهذا كفّت الشاعرة عن الحديث عنه بصيغة الغائب، أو الإشارة إليه بوصفه «موضوعاً»، وأصبحت تتحدّث عنه بوصفه هويّتها، ذاتها، تاريخها، ذاكرتها. الجسد لم يعد يتضرّج، في هذه القصائد، خجلاً من نفسه وإنّما أصبح يزدهي بجماله ورغائبه، فهو ليس حاجزاً وإنّما هو أفق، وليس مصدر ألم وخوف، وإنّما هو نبع بهجة وفرح، وفوق هذا كلّه ليس مجرّد معنى من جملة المعاني التي يكتّظ بها الوجود وإنّما هو الأصل الذي يمنح كلّ شيء معنى. في هذا السياق تنعطف الشاعرة عليه تمجّده: أَحْمِلُنِي فَوْقَ أَنَامِلِي/ أَحْمِلُنِي عَلَى صَهْوَةِ أَحْد {اقِي/ أَلْتَفُّ بِجِلْدِي قُمَاطاً/ أُعَانِقُنِي شَوْقًا إِلَيَّ/ أُبَارِكُ تَدَفُّقِي، تَلاَطُمِي/ أَحْضُنُنِي فِي صَدْرِي/. إنّ الجسد بوصفه «المنظومة الرمزيّة العامّة للعالم» كان، على امتداد التاريخ، بمثابة اللّوح الذي خطّت عليه المجتمعات أوامرها ونواهيها، أحلامها وأخلاقها. فجميع المجتمعات تريد أن تمتلك الأجساد، أن تطوّعها لإرادتها، أن ترتهنها أن تحفر فيها تعاليمها، ولعلّ أوّل هذه التعاليم: أنّ الجسد ليس ملك الفرد وإنّما هو ملك الجماعة، فهي صاحبته، والمتحكمة فيه. ههنا ينهض الشعر لينتزع الجسد من أيدي الجماعة، ليلحقه من جديد، بسلطان الفرد ليؤكّد أنّ الجسد ليس علامة على بؤس الإنسان وشقائه، وليس دليلاً على أثامه وخطاياه وإنّما هو وطن الإنسان، ومجده، وحقيقته، وذاكرته، لهذا وجب أن يصغي بعمق إلى نداءات الطبيعة المنبعثة منه: ِحينَ إِلَيَّ أَمْضِي/ أُبَاغِتُ الأَسْرَارَ/ أُفَصِّلُ البِقَاعَ/ أَصُوغُ أَسْمَاء جَدِيدَةً لِلْأَمْصَارِ/ أَتَسَلَّقُ الأَطْرَافَ/ أُطَمْئِنُ الخصْرَ/ أَعُدُّ أَصَابِعِي العَشْرَ/. كلّ ما في هذا الكتاب يقول إنّ الذي يتحكّم بالفعل الإبداعي ويوجهّه هو الجسد، أساطيره، ذاكرته الذاهبة بعيداً في الزمن. الكتابة هي، بعبارة أخرى، إصغاء لنداء الجسد، أي فعل تحرير لكلّ ما ظلّ فيه مطارداً، محاصراً، مسكوتاً عنه... من الجسد تبدأ الكتابة وإليه ترتدّ. لا شكّ في أنّ قارئ آمال موسى سوف ينتقل باستمرار من قراءة قصائدها بوصفها خطاباً جماليّاً يشعّ بإيحاءات فنيّة ودلاليّة شتّى، وبوصفها رسالة تنطوي على موقف الشاعرة من فعل الإبداع، أي أنّ قصائدها تتضمّن إلى جانب إنجازها لطريقة خاصّة في الكتابة موقفاً من الشعر بوصفه مفهوماً وممارسة. وأهمّ ما يمكن أن نلاحظه في هذا السياق، أنّ الشعر عند آمال موسى، حركتان اثنتان متشابكتان، متدخلاتان: حركة استرجاع وهي حركة الذاكرة لا تفتأ تعود إلى الماضي، تلتقط كِسَرَهُ وتسعى إلى تركيبها من جديد، وحركة استباق وهي حركة تتّجه إلى المستقبل أي إلى الحلم تسعى إلى تهجّي لغته وفكّ رموزها. كلّ هذا يتيح لنا القول إنّ قصيدة آمال موسى تقيم في زمنين اثنين متباعدين. فهي هنا وهناك، عين على ما توارى واختفى، وعين أخرى على ما سيأتي ويجيء. يشدّها باستمرار حنين إلى زمن آفل، ويستبّد بها شوق إلى زمن قادم: أَخْلُقُ فِي الأَيَّامِ فُصُولاً/ أَنْثُرُ فِي العُمْرِ حَاضِرِي/ وَأُغَنِّي: أَنَا المُسْتَقْبَلُ المَاضِي/. قد لا نجانب الصواب إذا قلنا إنّ قصائد الشاعر قد استحضرت بنية الحلم وتركيبه. والحلم في تعريف فرويد، لغة من خصائصها الإغماض والتحريف، ومجانبة الدقّة التي تقوم عليها لغة التواصل لهذا عدّ الحلم «بوحاً معمّى» يكشف ولا يكشف، يقول ولا يقول. ومثّل الحلم كانت قصائد آمال موسى فهي تقوم على الإخفاء والإضمار والمحو الأمر الذي يغري بالتأويل إثر التأويل. وكما هو معروف فإنّ الدّراسات اللسانيّة الحديثة تستبعد الأشياء من تحليل الظاهرة اللسّانية فعناصر اللغة لا تستمدّ معناها من الصلّة تنعقد بين الكلمة والشيء وإنّما من الصلّة تنعقد بين الكلمة والكلمة. والشعر في جوهره تركيب للكلمات المألوفة على نحو غير مألوف. في هذا الأفق الذي تتقارب فيه المتباينات وتتآلف فيه المتباعدات ينتفي منطق الدّلالة اللّغوي وينفتح الشعر على مطلق الحلم الذي يقوم على النقائض تتداخل، والأضداد تتصالح، أو إذا استخدمنا عبارات النّقاد القدامى تقوم على «عطف غير المتعاطف» بهذا يمكن أن نتأوّل قيام قصيدة آمال موسى على قانون «التوارد» يتحكّم في معجم القصيدة وصورها وبنيتها. هذا القانون تسوّغه أسباب نفسيّة ممعنة في القدم. على أساس منه نجد الدّال يستدعي الذّال، والرمز ينادي الرمز في ضرب من التداعي الذي لا يردّ... لا شيء يتحكّم في اللغة غير أساطير الشاعرة الذاتيّة، توّجه عناصر اللعبة الكتابيّة وتشكّل صورها. فالكلمات هنا تأتي ساحبة وراءها تاريخاً مفعماً بالأسرار، والألغاز، تاريخاً يرتدّ إلى طفولة الشاعرة إلى وعيها ولا وعيها في آن. إنّ هذا الكتاب ليس إلّا قصيدة واحدة كتبتها الشاعرة تحيّة للأنثى، على وجه الحقيقة والإطلاق، الأنثى بوصفها الجوهر والأصل، وما سواها فهو صادر عنها أو تابع لها. وفي هذه القصيدة قارعت الشاعرة ثقافة بثقافة: قارعت ثقافة التنكيل بالجسد وانتهاكه وقتله بثقافة أخرى تقوم على تكريمه وتمجيده والاحتفاء بقواه المبدعة.