في الرابع والعشرين من كانون الأول ديسمبر 1997 نشرت جريدة "جيروزاليم بوست" الإسرائيلية قصة إخبارية طويلة بعرض ثلاثة أعمدة في الصفحة الأولى، عنوانها: "إيران وراء مذبحة الأقصر"، والمضمون يقرر أن السفير الأميركي الجديد في إسرائيل إدوارد ووكر أخبر ديفيد ليفي وزير خارجية إسرائيل بأن السفارة الإيرانية في دمشق متورطة في المذبحة التي ارتكبها الإرهابيون الإسلاميون في مدينة الأقصر المصرية. وأضافت الصحيفة الإسرائيلية: "إن المصادر الديبلوماسية في القاهرة أكدت تلك المعلومات، وأضافت أن قرار الرئيس حسني مبارك هذا الشهر كانون الأول بعدم حضور مؤتمر القمة الإسلامي في طهران نشأ من اعتقاد حكومته بأن إيران متورطة في ممارسة الإرهاب الإسلامي في مصر". أما بالنسبة إلى سورية فإن السفير الأميركي إدوارد ووكر قال إنه "بينما تعتقد واشنطن أن دمشق تسعى إلى الانفتاح على الغرب، إلا أن الولاياتالمتحدة تجد أن علاقات دمشق الدافئة مع طهران غير بناءة". كانت تلك القصة الإخبارية تحمل كل مكونات الديناميت السياسي شديد الانفجار على مستوى الشرق الأوسط كله. هناك مصر أولاً... بالصدمة المروعة في وسطها الشعبي من حادث الأقصر، ليس فقط من ضخامة ضحاياه 58 سائحاً أجنبياً وعشرة مصريين ولكن أيضاً من التوحش فيه ضد أبرياء. هناك سورية ثانياً... وهي حليف تقليدي لمصر ولو بغير نصوص مكتوبة. وهناك إيران ثالثاً... وهي الطرف الإقليمي الأساسي الذي تحب الولاياتالمتحدة أن تكرهه. لأكثر من 18 سنة وهي تكرهه، بل تسعى بنشاط وهمة إلى عزله ومحاصرته. أخيراً هناك المصدر المنسوب إليه الخبر، وهو إدوارد ووكر السفير الأميركي الجديد لدى إسرائيل، الذي ذهب إليها لتوه بعدما قضى سنوات سفيراً للولايات المتحدة لدى مصر. أما الأكثر أهمية من هذا كله فهو تعليق إدوارد ووكر نفسه على تلك القصة الإخبارية. فحينما سئل تلفزيونياً عن تلك المعلومات التي نسب إليه نقلها إلى وزير خارجية إسرائيل ارتسمت على وجهه ابتسامة ثعبانية صفراء وهو يرد: أنا لا أنفي... ولا أؤكد. لا ينفي ولا يؤكد؟ إذن بالمفهوم العملي هو يؤكد. فقصة إخبارية متفجرة على هذا النحو، تضرب في الصميم العلاقات القائمة أو المحتملة بين مصر وسورية وإيران لا يجوز مطلقاً تركها عائمة في مساحة رمادية هي بين الأبيض والأسود. فإذا اختار الديبلوماسي الأميركي المسؤول رداً رمادياً هنا فإنه في الواقع يصبح شريكاً في ترويج القصة إعلامياً. وهكذا كان. فعلى مدار الساعة، وطوال الأربع والعشرون ساعة التالية، استمرت القصة الإخبارية المثيرة خبراً رئيسياً في مقدمات نشرات الأخبار التلفزيونية - "سي. إن. إن" مثلاً - وختامها في كل مرة هو السفير الأميركي الهمام وابتسامته الصفراء وكلماته الملتوية: "أنا لا أنفي... ولا أؤكد". أخيراً خرج تصريح مضاد من واشنطن بعد 24 ساعة، وفقط على لسان مسؤول في وزارة الخارجية الأميركية طلب عدم ذكر اسمه، حيث قال: "إن هذه القصة الإخبارية غير صحيحة... وأن جميع الأسئلة المتعلقة بالتحقيق الخاص بحادث الأقصر يجب أن تطرح على الحكومة المصرية نفسها". عين العقل. لكن العلاقات بين الدول ليست كلها عقلاً في عقل. هناك دائماً المناورات والإشارات والإيحاءات والدعاية السوداء وبالونات الاختبار والتراجع بعد تقدم أو التقدم بعد تراجع. هناك أيضاً ذلك المناخ المسموم الذي يجري فرضه عنوة على كل ما يتعلق بإيران، خصوصاً في علاقاتها بمحيطها الإقليمي. وإحدى المشاكل الكبرى في السياسة الخارجية الأميركية منذ سنة 1979 هي أنها لا تريد أن تصدق - بعد - أن نظام الشاه في إيران سقط شعبياً. بل ربما لا تريد أن تصدق أيضاً أن الشاه نفسه قد مات. فبالنظر إلى ضخامة الخدمات التي كان شاه إيران الراحل يقدمها للسياسات الأميركية في المنطقة - ولإسرائيل بالتبعية - هناك إصرار أميركي مستمر على قياس النظام "الجديد" في طهران على نظام الشاه. وبهذا المقياس فإن هذا النظام "الجديد" في إيران سيصبح ساقطاً، وعدواً، ولا بد من إسقاطه. يتوقف الأميركيون أيضاً عند مأساة الرهائن الأميركيين في طهران، الذين جرى احتجازهم طوال 444 يوماً فيما اعتبرته الولاياتالمتحدة ضربة موجعة لهيبتها ومكانتها في المنطقة جربت في مواجهتها الغزو المسلح، ففشلت. بالطبع ليس هناك أي منطق يبرر احتجاز رهائن، لكن المشكلة هي أن رد الفعل العصبي الإيراني هذا بدا في حينه ثأراً صبيانياً من تواطؤ مستمر مارسته السياسة الأميركية مع شاه إيران منذ أعادته المخابرات الأميركية إلى عرشه سنة 1954. ولو فكر الأميركيون للحظة في الكيفية التي كان الشاه يحكم بها إيران لأدركوا أن الشعب الإيراني تعرض طوال عهده لأكثر النظم على الإطلاق إرهاباً ووحشية وفساداً. لكن مأساة السياسة الأميركية بين وقت وآخر هو قدرتها على الانتقائية والفصل بين المقدمات والنتائج وافتقادها الكامل للإحساس بمرارات الشعوب وذاكرتها التراكمية. أكثر من ذلك استمرت السياسة الأميركية طوال 25 سنة تستخدم شاه إيران ونظامه ضد كل الدول المحورية في المنطقة. مصر، مثلاً، لحقها أذى كثير من علاقات شاه إيران الاستراتيجية الخاصة بإسرائيل وتحالفه السري معها ضد كل ما هو عربي. العراق أيضاً لحقه أذى كثير من قيام الشاه وإسرائيل باستخدام أكراد العراق في الشمال لاستنزاف الجيش العراقي بما يمنعه من تقديم أي دعم فعلي في المواجهة ضد غزوة إسرائيل الكبرى في حزيران يونيو 1967. حتى السعودية - كطليعة دول البترول - لحقها من شاه إيران ونظامه أذى مستمر لأنه أصبح الأداة الأميركية المفضلة في الضغط على دول البترول العربي لتستمر في بيع بترولها إلى الغرب بسعر التراب. ولأكثر من 26 سنة ظل سعر برميل البترول أقل من ثلاثة دولارات لسبب بسيط، هو أن السعودية ودول البترول كلما فكرت في الحصول على سعر أكثر إنصافاً للبترول كان شاه إيران يعمل طابوراً خامساً من خلال عرضه مضاعفة ما يضخه من بترول رخيص كبديل عن الآخرين. وفي إحدى المرات عرض شاه إيران صراحة على الرئيس الأميركي - ريتشارد نيكسون وقتها - الارتباط بتوريد مليون برميل بترول يومياً ولمدة عشر سنوات تالية، بسعر مدهش محدد سلفاً هو دولار واحد للبرميل. والولاياتالمتحدة لم ترفض ذلك العرض وقتها تعففاً ولكن لحسابات أخرى تتعلق بتوازنات خاصة في علاقاتها الإقليمية. وفي تشرين الأول اكتوبر 1973 - وبينما كانت مصر وسورية تخوضان مواجهة مسلحة ضد الاحتلال الإسرائيلي - قادت السعودية تحركاً عربياً بدأ برفع سعر برميل البترول بنسبة سبعين في المئة للمرة الأولى منذ كان هناك بترول، زائد البدء في حظر بترولي جزئي ضد الولاياتالمتحدة وهولندا. ساعتها خرج شاه إيران متبجحاً بإدانة الحظر ورفع سعر البترول معاً، معلناً أنه سيعوض إسرائيل عن أي نقص في إمدادات البترول وبالسعر الرخيص. واستمر الشاه في موقفه هذا طوال الشهرين التاليين إلى أن أدرك أن الفوز العربي أصبح أمراً واقعاً. فانقلب من النقيض إلى النقيض. لم تكن الثورة الإسلامية في إيران سنة 1979 حتمية فقط، ولكنها كانت في الواقع تصحيحاً لخلل كبير كان شاه إيران أداة في فرضه على المنطقة. وفي ذلك الحين تلازمت تلك الثورة بقدر ملموس من العداء للولايات المتحدة على وجه الخصوص. لكن بدلاً من أن تعالج السياسة الأميركية الأسباب فإنها توقفت فقط عند النتائج. فجأة جرى إغراق المنطقة كلها بتقارير تلح على خطر تصدير الثورة الإيرانية. وهو خطر كان وهمياً من الأصل لأن الثورة الإيرانية حدثت أساساً لأسباب إيرانية، فضلاً عن أن الإسلام السني في مصر مثلاً لم تسيطر عليه في أي وقت هواجس الشعور بالخطر من الإسلام الشيعي في إيران. فجأة أيضاً جرى إغراء صدام حسين في العراق بشن الحرب ضد النظام الجديد في إيران، توهماً منه بأن المكافأة في انتظاره على قارعة الطريق. مكافأة وراثة الشاه في دوره المكلف به سابقاً. بالمناسبة. يجب هنا أن نقرر، وبلا مواربة، أن عدم حصول صدام حسين على المكافأة التي تخيلها من حربه ضد إيران أصبح هو ذاته أحد أسباب قيامه بغزو الكويت في سنة 1990 بحثاً عن مكافأة بديلة. وبين السراب الأول والسراب الثاني أصبحت وظيفة حرب الخليج الأولى - بكلمات هنري كيسنجر - هي: "أنها تعطي للعراق الفرصة لكي يخلصنا من إيران. وتعطي لإيران الفرصة لكي تخلصنا من العراق". هذا يعيدنا إلى إيران والعرب في الواقع الراهن. فبالمنطق البسيط تبدو إيران المعاصرة أقرب ما يمكن إلى العالم العربي. ولكن بالفيتو الأميركي المستمر ليس هناك أبعد عن العرب من إيران. هذا الفيتو الأميركي، إذا أخذنا منطقه المعلن على علاته، له على إيران ثلاثة اعتراضات محددة. أولاً: أنها تسعى إلى حيازة أسلحة الدمار الشامل. ثانياً: أنها ترعى الإرهاب. ثالثاً: أنها تعارض عملية السلام بين العرب وإسرائيل. فلنبدأ من الآخر. من حق إيران أن تعارض عملية السلام الحالية بين العرب وإسرائيل. والحق هنا يصبح واجباً في ضوء أن المطروح في الواقع هو سلام إسرائيلي يعطي لإسرائيل مفهوماً امبراطورياً للأمن يعني في وجهه الآخر عدم الأمن العربي. أما مسألة رعاية إيران للإرهاب فهي حجة دعائية أكثر مما هي واقعية. ولم يحدث في أي وقت أن نشأ دليل له صدقية يربط إيران مباشرة بأي وضع إرهابي في المنطقة. ثم نأتي إلى الحجة الأولى وهي سعي إيران إلى حيازة أسلحة الدمار الشامل. علينا هنا أن نتذكر فقط أن من حق إيران أن تشعر بالخطر من كل هذا الوجود الأميركي المسلح في منطقة الخليج، خصوصاً في ضوء السياسة الأميركية المعلنة بالعمل على عزل إيران ومحاصرتها. وإيران انضمت باختيارها الحر إلى معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية. وهي تخضع لكل إجراءات التفتيش التي تمارسها وكالة الطاقة النووية. كما أن توجهاً نووياً إيرانياً يصبح خطراً يشغل بال روسيا أساساً وهي الأقرب جغرافياً... وليس الولاياتالمتحدة البعيدة وراء بحار ومحيطات. مع ذلك... ومع افتراض أن إيران تسعى إلى حيازة أسلحة الدمار الشامل، فإن الحديث هنا يدور عن احتمالات في مستقبل بعيد. وفي المقابل فإن تسليح إسرائيل النووي هو واقع مؤكد وليس احتمالاً مؤجلاً. لكن إسرائيل - وبحماية أميركية سافرة - ترفض الانضمام إلى معاهدة منع الانتشار النووي، وترفض بالتالي أي تفتيش من وكالة الطاقة النووية. هناك إذن أسباب ثلاثة معلنة للفيتو الأميركي ضد إيران لا تتمتع بأي جدية أو صدقية. هي فقط أعذار لتبرير الباب الأميركي كمدخل وحيد أمام العرب لكي يقيموا علاقات صحية مع إيران. وبالطبع هي في تلك الحال لن تصبح علاقات صحية بالمرة. هل آن الأوان إذن لكي يعلو صوت الجغرافيا والتاريخ على صوت المناورات الدولية في تطبيع العلاقات العربية مع إىران؟ هذا سؤال عربي يتطلب إجابة عربية. أما الإجابة الأميركية الصحيحة فإنها ستبدأ فقط يوم تصدق الولاياتالمتحدة أن شاه إيران قد مات... ولم يعد يجدي الوقوف أمام قبره في انتظار ما لن يجيء.