Samir Bouzid. Mythes, Utopie et Messianisme dans le Discours Politipue Arabe Moderne et Contemporain. الأساطير والطوباوية والتبشيرية في الخطاب السياسي العربي الحديث والمعاصر. L'Harmattan Paris. 1997. 297 Pages. هل الفكر العربي فكر اسطوري؟ ليس في هذا الاستفهام ما هو موضع استفهام سوى علامة الاستفهام نفسها. ففي نظر الباحث المغربي، المقيم في فرنسا، سمير بوزيد، يتفرع الخطاب السياسي العربي الحديث والمعاصر إلى خطابين، كلاهما يحمل شحنة عالية من الطوباوية: الخطاب الملتزم بمشروع "مدينة الله"، والخطاب الملتزم بمشروع "المدينة الدنيوية". وطوباوية الخطاب المحكوم بالمشروع الأول لا تحتاج إلى تفكيك: فهي مسلمته الأولى التي عنها يصدر وإليها ينتهي. وبالمقابل، فإن خطاب "المدينة الدنيوية" يفلح، تارة باسم العقلانية وطوراً باسم الواقعية، في إخفاء طوباويته خلف ستار كاذب من اللفظية العلمية. ولكنه سواء نسب نفسه إلى الوضعية الليبرالية أو إلى الرومانسية القومية أو إلى الواقعية الاشتراكية "العلمية"، ومهما بلغ من درجة تعبده لأقانيم "العقل" و"العلم" و"التنوير" و"التقدم" و"الثورة"، فإنه يظل قلباً وقالباً خطاباً تبشيرياً، يحكمه مبدأ الرغبة واللذة أكثر مما يحكمه مبدأ الواقع، ونصابه رمزي أكثر مما هو معرفي، ومرجعه إلى عصر ذهبي متوهم لا يقل، رغم طبيعته "العلمانية"، اتصافاً بالمثالية عن ذاك الذي يشكل الإطار المرجعي لدعاة إحياء "مدينة الله". هذا الخطاب السياسي العربي تحكمه أربع أساطير: التقدم والوحدة والبطل والعَوْد الأبدي، وخامسة سالبة: العدو أو المؤامرة الدائمة. التقدم هو الاسطورة البديئة. فمنذ أن فتح العرب أعينهم، مع حملة نابليون على مصر، على واقع تأخر "الذات" وتقدم "الآخر"، غدت "النهضة" هي المطلب المؤسس للخطاب السياسي العربي والأسّ الأول والأخير لمشروعيته مهما تنوعت وتباينت تضاريسه الايديولوجية. وبديهي ان الاجماع على ضرورة النهوض ما كان له أن يمنع الاختلاف في تصور الوسائل. ولكن حتى بين هذه الوسائل المختلف عليها ينعقد الاجماع على "الوحدة" باعتبارها كلمة السر التي تفتح مغارة التمدن والتقدم والعصر الذهبي المستعاد. فمن الدعاة القدامى مثل الأفغاني والكواكبي، إلى الدعاة المخضرمين مثل الحصري وعفلق والارسوزي، إلى الدعاة المتأخرين مثل البيطار والحافظ ومرقص، تبدو الوحدة أسطورة مؤسسة لجماع الفكر العربي وللخطاب السياسي الذي يصدر عنه. فالوحدة هي المفتاح الأول للمدينة الفاضلة العربية، وسور منعتها، وينبوع تقدمها وازدهارها. ورغم الجهود الملحوظة في العقود الأخيرة لبناء "نظرية علمية في الوحدة"، فإن الفكر الوحدوي العربي أقرب إلى أن يكون لاهوتاً منه فكراً. وتحت غطاء رقيق من نزعة وضعية أو نقدية، فإن بنيته الباطنة تبقى ميتولوجية ومن طبيعة احيائية، بل أرواحية. هذه الوحدة، التي تكاد تكون شرطاً لكل شيء وغير مشروطة بأي شيء، تجد صانعها الأول في شخص البطل. فالبطل، هدية القدر إلى الأمة، هو وحده القادر على تحدي التجزئة وتخطي حدودها، وعلى تحقيق وحدة الأمة بوصفها شرط بقائها والتجلي الأول لمعنى وجودها. ولكن بما أن الوحدة أقرب ما تكون إلى عيد احتفالي كبير، أي مسبوق بالضرورة بطقوس تضحية، فإن البطل الوحدوي الأمثل هو البطل الشهيد. فالشهادة هي فعل البطولة الأول. وبدون كبش الفداء الذي يمثله البطل الشهيد، فإن الطقوس الوحدوية ستبقى بلا استجابة. فليس من خطاب سياسي يربط بين الموت البطولي وبين البعث القومي كالخطاب السياسي العربي. فحياة الأمة في موت أبطالها، فهم ضمانتها للتجدد، ووقودها للانبعاث. ولكن إلى جانب البطل الشهيد هناك أيضاً البطل السياسي. وهذا البطل ليس دوره أن يموت، بل أن يحيا ويحيي. فهو يختصر الأمة في شخصه، ويقوم لأفرادها مقام الأب لأولاده، ولقيادتها في معركة الحسم بين الخير والشر ينذر وجوده كله. ومنذ مطلع عصر النهضة عاش الفكر السياسي العربي على اسطورة المستبد العادل أو المصلح الأكبر الذي لا تلده الأمة إلا مرة كل مئة سنة. وقد خيل لرائد نهضوي مثل رفاعة الطهطاوي أنه واجد مجدد الأمة في شخص محمد علي الذي وصفه بأنه اسكندر أكبر جديد. كما خيّل لساطع الحصري، كبير منظري الفكرة القومية في فترة ما بين الحربين، أنه واجده في شخص الملك فيصل بن الحسين الذي كان يلقبه هو أيضاً بأنه "فيصل الأكبر". ولكن البطولة السياسية ما تجلت قط لدى أحد كما تجلت لدى جمال عبدالناصر. فصلاح الدين الجديد هذا يتبدى في الخطاب السياسي العربي المعاصر له وكأنه رجل الأمة ومنفّذ وصيتها وباعث كرامتها ومحيي وجودها ومهندس مكانها في التاريخ. ولئن تكن هالة عبدالناصر أصابها قدر من الشحوب بعد هزيمة 1967، فإن موته الذي بدا سابقاً لأوانه رفعه إلى مقام البطل الشهيد الذي ضحى بحياته وأنهك قلبه إلى حد التوقف على مذبح القضية الفلسطينية. ولقد حلم قادة سياسيون عرب شتى في أن يحلوا محل عبدالناصر. ولكن دور بطولته التاريخية كان أعظم من أن يرثه أحد. وإذ بقيت الأمة من بعده يتيمة، فقد راحت تبكي، بعد العملاق الذي كانه، مآل أمرها إلى "أقزام" و"مهرجين". وتلك هي سمة الزمن العربي الراهن الذي يجمع الخطاب السياسي المعاصر على وصفه بأنه زمن أسود. ولولا فوانيس النور التي يمثلها أولئك الأبطال بالوكالة الذين هم المثقفون العرب لانعدم كل حظ للأمة في الخروج من دياجير الظلمات. وتحت ضغط اليأس المعمم سارع سواد المثقفين العرب - وقد أعفوا أنفسهم من كل حسّ نقدي اثناء أزمة الخليج عام 1990 - إلى محاولة "فبركة" بطل جديد تصوروه يرتدي بزة بسمارك عربي. وعدا النتائج الكارثية التي تمخضت عنها مبادرة "ضم الكويت"، فإن أكثر ما يلفت النظر في موقف أولئك الباحثين عن تجديد البطولة غفلتهم عن ان العصر، ممثلاً بالزمان العالمي، قد أعلن عن "ختام البطولات"، لا سيما إذا كانت من طبيعة بسماركية. ولكن هنا تحديداً، كما يقول لنا سمير بوزيد، يأتي دور الاسطورة الرابعة السالبة: اسطورة العدو أو المؤامرة الدائمة. ففكرة العدو تمثل أولاً ضرورة جدلية، فلا بطل منقذ بلا عدو متآمر. وبما ان الاسطورة - وهي محرك الخطاب السياسي العربي - لا تعمل إلا على مستوى المواجهة العظمى بين قوى الخير وقوى الشر، فإن دراماتيكية الصراع البطولي لا تكتمل ما لم ينتصب في مواجهة البطل المؤمثل عدو مؤبلس ذو طاقات شيطانية لا قبل للإنسان العادي بها. ثم ان فكرة المؤامرة الدائمة تقدم نوعاً من بلسم للنرجسية الجريحة. فارجاع هزائم الذات وانتكاساتها واحباطاتها إلى تدخل قوى جهنمية يعفي هذه الذات من المسؤولية الذاتية ويجعل من الانحطاط أو التخلف الذي اكتشفت فجأة أنها تعاني منه عرضاً عارضاً لها من الخارج ومفارقاً لطبيعتها الصميمية. وعلى هذا النحو يطيب للخطاب السياسي العربي أن يصور تاريخ الأمة وكأنه مسرح لمؤامرات غامضة ومتصلة. فبالأمس، ومع ولادة الإسلام، بدأ التآمر على يد الدخلاء على الإسلام والعروبة من أمثال "اليهودي" عبدالله بن سبأ وأهل الغنوص والهرمسية، ثم جاء دور الفرس والشعوبيين عموماً، وتلاهم الصليبيون والمماليك والعثمانيون، قبل أن ينتهي المطاف إلى الامبرياليين الغربيين ووكلائهم الداخليين من البورجوازيين الكمبرادوريين والقوى الرجعية والاقطاعية والأقليات المشبوهة، وفي مقدمة هؤلاء جميعاً الصهاينة الذين هم النموذج الأكثر نجازاً لمفهوم العدو المتآمر. وأكثر ما يميز الخطاب السياسي العربي من هذا المنظور أنه يوظف، في اخراجه الاسطوري لفكرة المؤامرة الدائمة هذه، منظومة من الرموز الوجدانية الشالة للتفكير والمثيرة للانفعال، والتي تستبدل المعرفة الموضوعية للواقع باستيهامات نفسية خالصة: فالاستعمار وحش لا يرى منه سوى أنيابه ومخالبه، وإسرائيل مصّاصة دماء وخنجر مسموم في قلب الأمة، والامبريالية أخطبوط وسرطان، وعملاؤها الداخليون ذئاب وثعالب ماكرة، وهناك من بات يتحدث اليوم عن "ديناصورات". وبديهي أن الوجه الآخر لشراسة الأعداء هذه صلابة الأمة. فالسلب العظيم لا بد أن يقابله ايجاب أعظم منه. وذلك هو الدور الموكل إلى خامسة أساطير الخطاب السياسي العربي: العود الأبدي. فالأمة العربية هي بامتياز أمة العصر الذهبي. وهذا العصر هو بمثابة حتمية تاريخية دورية: فليس ثمة مناص من أن يتجدد في مستقبل الأمة ماضيها. وهذا التجدد ليس محض ضرورية عربية، بل هو أيضاً ضرورة كونية. فالانسانية بحاجة إلى قيادة الأمة العربية للحضارة العالمية. ولن يكون متعذراً على الأمة ان تثبت في الغد الجدارة التي أثبتتها بالأمس. وليس من النادر ان يقترن وهم هذه "الرسالة الخالدة" بوهم سقوط الغرب وموته. فتهميش هذا الأخير ضروري لمعاودة الذات المهمشة احتلال موقعها في نقطة المركز. فعلى هذا النحو الاستيهامي ترضى الذات الجريحة عن ذاتها ويرضى عنها العالم. الفكر العربي الحديث والمعاصر خزان ومولد دائم للأساطير. هذا هو إذن الحكم النهائي الذي يصدره سمير بوزيد على هذا الفكر، كما يعبر عن نفسه في الخطاب السياسي العربي. أهو حكم قاسٍ؟ بلى بكل تأكيد. ولكن بدون القسوة لا يؤتي النقد مفعوله. ومؤلف "الأساطير... في الخطاب السياسي العربي" يريد ان يكون ناقداً قبل أي شيء آخر، وهذا حق مشروع له. ولكننا نخشى أيضاً ان يكون الحكم ظالماً. والظلم غير القسوة. فهذه قد لا يتأتى عنها سوى غلو وتطرف في الاستنتاجات. أما الظلم فمجاله المقدمات نفسها. فتعميم الحكم على الخطاب السياسي العربي بأنه خطاب اسطوري يبدو وكأنه لا يأخذ بعين الاعتبار ان الفكر المنتج لهذا الخطاب هو أيضاً، وفي بعض تجلياته على الأقل، فكر نقدي. وفي الوقت الذي يعزز فيه مؤلفنا أحكامه بأكثر من ستمئة شاهد، فإنه يسقط من حسابه بصورة شبه تامة الشواهد التي من شأنها أن تثبت أنه قد وجد في داخل الفكر العربي الحديث والمعاصر مفكرون نقديون أخذوا على عاتقهم، بقدر أو بآخر من النجاح، التصدي لنقد الأساطير السائدة في الخطاب السياسي العربي. وهذا الاغفال لنقد الفكر العربي لنفسه هو ما يجعلنا نفترق عن ناقد اسطورية هذا الفكر حيث كان يجب أن نتلاقى.