(إلى الصديق علي فرزات بوجع كبير وأمل كبير أيضاً) لم يستطع كلكامش الانتصار على الموت أو الخلاص منه، لكن الملحمة فعلت ذلك. فقد انتصرت على الموت فعلاً، مُخلّدةً توقَ الإنسان وشغفه بالمستحيل، جاعلةً لهزيمته معنىً وإيقاعاً وحكمة، أي أسطورة. وهنا تكمن المفارقة بين قوّة النص وقسوة الزمن، بين حكمة النص وطيش الطاغية. البطل الحقيقي إذاً، في هذه الملحمة العظيمة، ليس كلكامش، الشخص القوي الشكيمة والإرادة والمستبد الرهيب أيضاً، بل هو النص. نص الأسطورة، والحكمة المتولدة والمنبثقة عن جماله الأخّاذ. كانت ثقافة الماضي تنطوي على فلسفتها الخاصة، تلك الفلسفة التي نشأت من خلالها الحضارات العظيمة والأساطير التي لا يمكن فهم تاريخ الإنسان وتاريخ المعرفة من دونها. ولا يمكن أيضاً الكشف عن مكنوناتها تماماً، لأن كشف أسرارها يجعلها قابلة للتقليد والتكرار، وبالتالي ستكون جزءاً من العالم العادي. إن الاستعادة الفجة لرموز الحضارات القديمة وأبطالها الأسطوريين، التي دأب عليها بعض حكام العراق ومصر وسورية منتصف القرن الماضي، كشفت البؤس الروحي والثقافي لأولئك الحكام مثلما كشفت دائماً عن مُنعةِ أو سرِ تلك الملاحم والأساطير المتألقة وسخريتها من محاولات تقليدها أو تكرارها أو سرقة أبطالها. لقد كان العمل الاستعادي لملحمة كلكامش الذي قدمه المخرج العراقي صلاح القصب 1974، واحداً من أكثر الأعمال بؤساً، فقد تم سرد وقائع الملحمة بطريقة تخلو من المعنى أو التشويق لتنتهي بخطاب أحمد حسن البكر وهو يعلن «تأميم النفط» لتضجّ القاعة بالتصفيق المفتعل لكلكامش الجديد أو كلكامش البعثي! لقد قدّم صلاح القصب أسطورة زائفة ملطخة بصوت السلطة ورطانتها. لم يكن العمل دعاية سياسية فقط، وهذا وحده يكفي لقتل أي عمل فني، بل كان أيضاً يستند إلى تفسير خاطئ وشائع للملحمة، وهو الاعتقاد بأن أهميتها تكمن في بطلها كلكامش متناسياً أن كلكامش كان مستبداً رهيباً وطاغيةً لا تعرف الرحمة طريقاً إلى عقله المضطرب. وكان يبحث عن الخلود ليواصل بطشه وجبروته. لقد كان تاريخ كلكامش هو الجانب المظلم من الملحمة، كان المادة التي تجسّد بؤس الطغاة وسماجة طموحاتهم، أما البطولة الحقيقية فقد كانت للنص وللحكمة المنبثقة عن إيقاعه وأحداثه التي تبدو وكأنها ما زالت مستمرة في مكان ما من هذا العالم. هذا الشغف في تحويل التاريخ والشخصيات التاريخية والأساطير إلى مادة إعلامية، ظلَّ شائعاً في عراق صدام ومصر مبارك وسورية الأسد وليبيا القذافي، هذا المسخ الذي أراد إلغاء أسطورة عمر المختار فأبعد قبره إلى مكانٍ مُهمل، لكنه لم يستطع أن يُبعدَهُ عن قلوب الليبيين التي لا تعرف الإهمال حتى وهي مجروحة. لقد خلق الليبيون حكمتهم الفذة، أسطورتهم التي لاحقت الطاغية وانتقمت منه هازئةً بأكاذيبه وقسوته وأشباحه الكريهين. إذا كانت شعوب العالم المتقدم تعيش عصراً حديثاً صنعته هي بنفسها، فإن أنظمة الانقلابات العسكرية في بلداننا، التي رفعت «الراية القومية» لتكسر بها شوكة شعوبها، خالقةً لنا عصراً غريباً لا إسم له ولا هوية، عصراً رثاً لا ينتمي الى الماضي على رغم تشبثها بأساطيره وأبطاله، ولا الى الحاضر حيث ثارت عليها شعوبها وفضحتها، ولا الى المستقبل لأن المستقبل لا يمكن أن يحتمل نتانات قاتلة من هذا النوع. لقد خلقت هذه الأنظمة عصراً كاذباً، عصراً لا حقيقة فيه ولا منطق، ولذلك لم يستطع خلقَ أساطيرَ بل أكاذيبَ ودباباتٍ تلاحق المتظاهرين وتقتلهم، تاركةً وراءها جثثاً وصراخاً ومقابر فردية وجماعية توجع الأرض والبشر والأيام. عصرٌ لا يَصلح إلا للعار. وإذا كانت صورة صدام حسين بلحيته الكثة المزرية وهو يخرج رثاً مرعوباً من تلك الحفرة البائسة، هي الأكثر فجاجة وبعداً عن هيبة الأساطير وسموّها، فإن مكر التاريخ هو ما يصلح إطاراً لصورة صلاح الدين الأيوبي التي تتصدر إحدى قاعات القصر الجمهوري في دمشق، صلاح الدين الأيوبي القائد الفذ الذي لم يخلق نفسه بنفسه بقدر ما خلقته ومكّنته شجاعة شعب بلاد الشام الأسطورية. تلك الشجاعة الهائلة التي دحرت الحملات الصليبة بما كانت تحمله من شر مستطير على شعوب المنطقة ومستقبلها. فالشعوب العظيمة هي التي تخلق الأبطال، هي التي تخلق الأساطير، أما الأبطال المزيفون فهم الذين يكسرون مرايا شعوبهم فتبقى صورهم مشوّهة في تلك المرايا المكسورة. هذا ما فعله صدام والقذافي ومبارك وصالح وبن علي وحافظ أسد. وهو ما يواصله حاكم دمشق الآن الذي أطلق دباباته وشبّيحته وأشباحه لتقتيل أحرار سورية وتدمير مدنها، تاركاً دماء الضحايا تستصرخ أرواحنا، بل تقتلنا قتلاً، وتضرب وجودنا وتاريخنا في القلب. إنه البطل الدعي قاهر أمته، البطل الكاذب الذي لا يستطيع أن يبني أسطورته إلا على جثث شعبه، مواصلاً ضرب الأعناق مستهتراً بكرامة الإنسانية بأسرها دليلَ همجيته المطلقة. فهو لا يشعر بالمجد والسؤدد إلا بتصاعد صراخ الضحايا وضجيج المقتولين. لكن هذا الضجيج الرهيب ذاته لطالما قهر الطغاة وهزم أساطيرهم الكاذبة. ولكن مَنْ هذا الذي نفض الغبار عن أوراق التاريخ كي يُشرع بابتكار أسطورته الجديدة؟ من هذا الذي تجرأ على كتابة الأساطير في عصر القطارات والصواريخ وكواتم الصوت! إنه الشاعر التونسي الكبير محمد بوعزيزي. لقد طعن الوحش الكاسر الذي خنق أرواحنا لقرون... إنه محمد بوعزيزي الذي لم يترك لمشيّعيه أن يذهبوا بجنازته إلى المقبرة بل قادتهم الجنازة إلى الأسطورة! لقد انتقمت الأسطورة من الطاغية لأنه هدّدها، أراد مسخها، هدّد ألقها وسر حكمتها التي خلقها الإنسان الحر. خلقها كي يفرح بأغانيها وهو يحرث أرضه في النهار، وخلقها كي يرقص على إيقاعاتها تحت نجوم الليل. خلقها كي تحميه، كي تلاحق الطغاة وتقتلهم، وها هي تنتقم منهم الواحد تلو الآخر، ملاحقةً أشباحهم وشبّيحتهم في فلوات الأرض وتحت نجوم السماء، طاردةً إياهم من الواقع والخيال، من الليل والنهار، من أغاني الحبِّ وتاريخ المطر! * كاتب عراقي