«فص ملح وذاب»، هكذا يبدو في طرابلس اليوم وضع «الملايين» الذين كان العقيد الفار معمر القذافي يدّعي أنهم «يحبونه». فهل يُعقل أن هؤلاء «الملايين»، ولو كانوا آلافاً أو حتى مجرد مئات فقط، ممن وقفوا إلى جانب نظامه وكانوا يتظاهرون في شكل يومي في «الساحة الخضراء» سابقاً اختفوا كلياً منذ أن دخل الثوار العاصمة الليبية في 20 رمضان الماضي؟ بالطبع، مناصرو نظام القذافي ما زالوا موجودين. بعضهم انسحب من العاصمة بالتأكيد مع انسحاب كتائب القذافي الأمنية جنوباً في اتجاه ترهونة وبني وليد. لكن كثيرين آخرين بقوا في بيوتهم ويعيشون اليوم حياتهم العادية في ظل حكم ثوار المجلس الوطني الانتقالي. ولجأ الثوار بعد دخولهم السريع الى طرابلس إلى تشكيل لجان محلية تضم موالين للحكم الجديد في كل حي ومؤسسة وجامعة. ويتولى أعضاء هذه اللجان تقديم معلومات عن سكان الحي وتحديد مكان سكن مناصري القذافي، وهو الأمر الذي يسهّل القبض عليهم في حال وقعت أحداث أمنية. إضافة إلى ذلك، بدا أن الثوار وهم خليط من سكان العاصمة ومناطق أخرى خارجها أخذوا في الاعتبار إمكان أن يثير التحقيق مع شخص ما حساسية القبيلة التي ينتمي إليها حتى ولو كان يسكن العاصمة وعلاقته بقبيلته لا تعدو كونها «مظلة اجتماعية» لا أكثر. ويقول مسؤول سابق في جهاز أمني اكتفى بتعريف اسمه ب «عبد المطلب» أن ثواراً من الزاوية (غرب العاصمة) أوقفوه مباشرة بعد دخولهم طرابلس لكنهم لم يحققوا هم معه بل تركوا الأمر إلى ثوار آخرين ينتمون إلى قبيلته في منطقة غريان، جنوب غربي طرابلس. ويوضح أن ترك الثوار الأمر لقبيلته كان بهدف تفادي إثارة حساسيات قبلية، كي لا تشكو قبيلته مثلاً من أن «قبائل الزاوية تحقق مع أبناء قبائل غريان». وليس واضحاً ما إذا كانت هذه السياسة تُتبع مع جميع الموقوفين من رجالات النظام السابق، على رغم أن هناك مؤشرات إلى أن ذلك لا يتم اتباعه في كل الحالات. والصحافية المشهورة هالة المصراتي، مثلاً، التي كانت من أكثر الوجوه الإعلامية دفاعاً عن نظام القذافي، معتقلة حالياً في الزنتان في الجبل الغربي (جيل نفوسة) بعدما اعتُقلت في طرابلس إثر فرار قوات القذافي منها الشهر الماضي. كما تم نقل عشرات المسؤولين في النظام السابق إلى الزنتان التي يعتبرها الثوار أكثر أمناً من العاصمة، على رغم أن آخرين معتقلون في قاعدة معيتيقة العسكرية شرق طرابلس التي تحوّلت إلى مقر قيادة للثوار. ويفرض الثوار النظام في طرابلس من خلال سلسلة لا تنتهي من «البوابات» الأمنية، وهي عبارة عن حواجز يقيمها أبناء الأحياء ويقف عندها شبان صغار يبدون فرحين بأنهم يحملون رشاشات ويتولون تفتيش المارة وسؤالهم عن الأماكن التي جاؤوا منها أو التي يودون الذهاب إليها. وتبدو الفوضى واضحة في طريقة إقامة الحواجز وتفتيش السيارات، وإن كان ذلك يمر بسهولة ويسر واضحين في أغلب الحالات. والظاهر أن هذه الحواجز تلعب دوراً في طمأنة سكان طرابلس الى أن الأمن مستتب فيها، إذ لا يُسمع عن وقوع أي مواجهات أمنية مع فلول مناصري القذافي على رغم إطلاق الرصاص المتكرر ليلاً، الذي يبدو انه مجرد تعبير عن الفرح من ثوار يُطلقون نيران أسلحتهم الرشاشة في الهواء. وظهرت لافتات في بعض شوارع طرابلس تناشد الثوار عدم إطلاق الرصاص في الهواء. وعلى رغم تمكن الثوار من فرض الأمن في طرابلس، إلا أن مناصري القذافي لم يختفوا تماماً منها. بل أن بعضهم لا يزال على ولائه، كما يبدو، لزعيمه المخلوع ويقوم بما يطلبه منه، مثل القيام بهجمات ضد الثوار، كما شاهدت «الحياة» خلال جولة في منطقة توتة بن جابر في زاوية الدهماني بطرابلس مساء أول من أمس. فعند الثالثة فجراً تعرّض حاجز أقامه ثوار الحي إلى هجوم بقنبلة ما أسفر عن سقوط ثلاثة جرحى أحدهم في حال الخطر الشديد. ويقول علي، وهو شاب ملتح كان يتولى تفتيش السيارات عند الحاجز: «كان رجلاً كبيراً في السن، لكنه رمى علينا رمانة فأصيب ثلاثة من الشبان. اعتقلناه وسيتم تقديمه إلى المحكمة. سُلّم الآن إلى كتيبة معيتيقة للتحقيق معه وسيُحال على المحكمة بحسب القانون، فالثوار لا يتعدون على أحد». وتقدم شاب صغير من «ثوار الحي» ليوضح أن الذي نفذ الهجوم «أرجنتيني (الأصل) لكن معه أوراقاً ليبية ويقول إنه ليبي». وشاهدت «الحياة» الى جانب الحاجز آثار شظايا على واجهة محل تجاري تضرر جراء القنبلة التي لم تترك سوى حفرة صغيرة على الرصيف لكنها حطّمت زجاج المتجر. وقال شاب كان يرتدي قبعة «ليبيا الحرة» إنه كان يقف على الحاجز ساعة الهجوم: «كنا نقف عند الحاجز في الثالثة فجراً (أول من أمس) ومعنا أولاد صغار نفتش السيارات. طلبت منه بطاقة تعريف، لكنه أدار لي ظهره رمي علينا رمانة. الأولاد الصغار كانوا حولي لكنني لم أعد أعي ما يحصل. صرت أفكر في الأولاد وأفكر في السيارة وأبحث عن سلاحي ولا أجده. لكنني سمعت لاحقاً أن الثوار اعتقلوا المهاجم في منطقة باب تاجوراء». أثار كلام الثوار حفيظة رجل كان يقف بجانب الطريق ويراقب ما يحصل. تقدم قائلاً بمرارة: «بعض هؤلاء الشباب لم يحمل السلاح في حياته سوى مع بدء الأحداث في 20 الشهر الماضي (عندما بدأ دخول الثوار للعاصمة). لم يكن هذا ليحصل لو دخل الجيش الوطني الذي قالوا لنا إنه يضم 15 أو 20 ألف جندي. أليس من الأفضل أن يتسلم الجيش الوطني الأمن عوض أولاد صغار مساكين يحملون السلاح للمرة الأولى». لكن الشاب الذي قال إن اسمه محمد الأحول نفى رداً على سؤال أن يكون الثوار يقومون باعتداءات على السكان من أنصار النظام السابق، مؤكداً أن اعتراضه ينطلق من أن الثوار «شبان صغار في ال 18 أو ال 17 من عمرهم ولا يعرفون حمل السلاح وإدارة حواجز التفتيش. نريد الجيش الوطني الذي تحدث مصطفى عبدالجليل عن إرساله إلى طرابلس؟».