تدخل الثورة المصرية شهرها السادس بكثير من الإنجازات والأزمات والتحديات، وبمزيد من التطلعات والرغبات الشعبية المشروعة في مواصلة الثورة، ويتطلع كثير من المواطنين وأغلب التنظيمات الشبابية والأحزاب، للتظاهر يوم الجمعة المقبل، في مليونية جديدة من أجل الفقراء والشهداء، وأحياناً من أجل الدستور أولاً، أي أن المليونية السلمية – سلاح الثورة – تصوِّب لتحقيق أهداف متعددة. أحد هذه الأهداف، الدستور قبل الانتخابات البرلمانية، بات محلَّ خلاف عميق واستقطاب بين جماعة «الإخوان» والسلفيين من جهة، وأغلبية القوى الداعية للدولة المدنية من جهة أخرى. وأعتقد أن الاختلاف على عنوان تظاهرة واعتصام بعد غد وأهدافهما، يعكس أهم أزمتين تواجهان الثورة المصرية، وهما: أزمة النخبة وأزمة الدولة. ورغم التمايز بينهما، إلا أن هناك صلات قوية تربطهما وتأثيراً متبادلاً، حتى أن هناك من يجادل بأنهما وجهان لعملة واحدة. والمقصود بالنخبة المصرية، ليس فقط نخبة أحزاب المعارضة وجماعة «الإخوان» والسلفيين، بل مجمل النخبة المصرية، على اختلاف تقسيماتها ومكوناتها، وسواء كانت تعمل في أجهزة الدولة والجيش والحكومة أو في المجتمع المدني. تتجسد أزمة النخبة المصرية على اختلاف أقسامها وتكويناتها في الانقسام الثقافي والفكري، والافتقار الى رؤية محددة للمرحلة الانتقالية، ولمستقبل مصر، والأهم رؤيتها لنفسها وقدراتها ودورها، وتبعات عجزها عن إدارة حوار، والتفاوض بالمعنى السياسي للكلمة، والذي يعني القدرة على تقديم تنازلات والتوصل إلى حلول توافقية وسط. ويمكن القول إن أزمة النخب المصرية، ولأسباب تاريخية، تعمقت أثناء حكم الرئيس المخلوع حسني مبارك، ما أضعف من تأثيرها ومصداقيتها بين الجماهير. من هنا ربما، وجدت الجماهير في النخب الإسلاموية، ممثَّلة في قيادات الجماعات السلفية وجماعة «الإخوان» – وقيادات الكنيسة القبطية -، بديلاً أقرب إليها من بقية النخب المصرية، بما فيها قيادات الطرق الصوفية التي تراجع دورها في عصر مبارك. واتخذ التمرد الجماهيري على النخبة المصرية أشكالاً متعددة، أهمها ضعف المشاركة السياسية ومقاطعة الانتخابات، والانخراط في أشكال تنظيمية مرنة وغير تقليدية في الأحياء العشوائية والمدن الصغيرة والقرى، أو في الشركات والمصانع التي عانت من الآثار السلبية للخصخصة، وقد نجحت هذه الأشكال الجديدة البعيدة عن التأثير التقليدي للنخب المصرية في تنظيم 222 احتجاجاً عام 2006، ارتفعت إلى 600 عام 2007–2008، لتصل عام 2009 إلى 700 احتجاج. وتزامن مع هذه الاحتجاجات والإضرابات ميلاد جديد لكثير من حركات الرفض السياسي والاجتماعي، مثل الحملة الشعبية لدعم الانتفاضة الفلسطينية، وحركة «كفاية»، و»الحملة الشعبية للتغيير»، وحركة «شباب 6 إبريل»، ومجموعة «كلنا خالد سعيد». وأكدت هذه الحركات منذ ظهورها حضور الشباب كفاعل سياسي جديد في السياسة المصرية، اصطدم في كثير من مواقفه مع النخبة السياسية، التي تهيمن على قيادة الأحزاب وجماعة «الإخوان» منذ سنوات طويلة ولا تسمح - بحكم السن والتكوين الفكري والسياسي - بالتفكير خارج صندوق خبراتها ومصالحها ورؤيتها للعالم. لم يكن من المنطقي ولا المقبول تاريخياً، أن يكون المتوسط العمري لقيادات الحزب «الوطني» الحاكم وأحزاب المعارضة و «الإخوان» فوق الستين في أقل التقديرات، بينما أعمار 28 في المئة من مجموع سكان مصر تتراوح بين 15 و 28عاماً! وأن تكون الأطر الفكرية والسياسية لجماعة «الإخوان» وأحزاب الوفد والناصري والتجمع تنتمي إلى القرن الماضي. والأزمة أن شيخوخة النخبة المصرية لم تقتصر على الفضاء السياسي، بل طالت كل مفاصل المجتمع والدولة والشرطة والجيش، حيث سرت في نظام مبارك قاعدة استمرار أهل الثقة في مواقع القيادة، بصرف النظر عن مستوى الكفاءة أو الأمانة أو السن، ومن ثم كان بعض القيادات يستمر في العمل بعد أن يصل إلى السبعين. كان الصدام طبيعياً بين أجيال صاعدة تبحث عن حق في الحياة ودور في المجتمع، ونخبة انفصلت عن الجماهير ومشاكلها، واحتكرت الثروة والسلطة وادعاء المعرفة، وأصبحت بحكم السن والخبرة لا تعيش زمانها ولا تعرف أدواته ومعارفه، وبالتالي فشلت في اكتشاف أزمتها ومعرفة المطلوب منها. من هنا، لم تجدد نفسها أو تسمح بمشاركة الشباب، وتجاهلت عن عمد وجهل وغرور الأصوات المطالبة بالإصلاح وتجديد النظام السياسي، فكان فشلها مدوياً في مواجهة ثورة 25 يناير، إذ انهارت المنظومة الأمنية واستسلم رأس النظام خلال 18 يوماً (أسرع ثورات الربيع العربي)، بعد أن رفضت النخبة العسكرية قمع المتظاهرين، وانضمت إلى الثورة، في علامة بارزة على انقسام النخبة الحاكمة في نظام مبارك. تحيُّزُ جيش مصر الوطني للثورة وحمايتُه للثوار، هما أيضاً الوجه الآخر لانقسام نخبة نظام مبارك، واستمراريتها في الحكم. وقد يكون ذلك أمراً طبيعياً، فلا يمكن بضربة واحدة التخلص من نخب النظام القديم التي تدير الدولة لصالح نخبة جديدة يشارك فيها الشباب بنصيب وافر، لكن الأزمة في مصر أن نخبة مبارك هي التي تمسك بزمام الثورة وسلطة الدولة، وهي بحكم تكوينها وخبراتها تغلّب منطق الدولة على الثورة، والدولة هنا هي دولة مبارك، أي النسخة الأضعف والأكثر فساداً في التاريخ الحديث للدولة المصرية. وهناك أمثلة كثيرة على مقاومة الدولة للثورة، منها أن حكومة عصام شرف، الذي حظي بشرعية ثوار التحرير، لا تمارس كامل سلطتها، فالسلطة في يد المجلس العسكري، وحكومة شرف تضم 19 وزيراً كانوا من قيادات الحزب «الوطني» المنحلّ. وتبدو حكومة شرف عاجزة أمام بيروقراطية دولة مبارك وموظفيها، فأهالي الشهداء والمصابون غير قادرين على الحصول على حقوقهم، والتغيير لم يَطَلِ المناصب القيادية في الوزارات والجامعات، والمجالسُ المحلية استمرت إلى أن صدر حكم قضائي بحلها، والضباط المتهَمون بقتل المتظاهرين مطلَقو السراح ويمارسون وظائفهم، ولم يَرِدْ تعبير ثورة 25 يناير في القرارات والقوانين الرسمية التي صدرت، بما فيها الإعلان الدستوري الصادر عن المجلس العسكري، أي أن السجل التاريخي الرسمي للدولة لا يعترف بالثورة، ما يعني أن الجهاز الحكومي غير متفاعل معها، على نحو ما خلص إليه الصحافي القدير غالي محمد. ويعلمنا التاريخ أن الدولة المصرية العتيدة في بيروقراطيتها تميل دائماً إلى مقاومة التغيير أياً كان مضمونه واتجاهه، فقد سبق وقاومت محاولات عبدالناصر للتأميم وتبنِّي نوع من الاشتراكية، وعندما تبنى السادات سياسة الانفتاح وحرية رأس المال قاومت بيروقراطية الدولة هذا الانقلاب وعرقلت كثيراً من الخطط والمشاريع، لكن مع سنوات الحكم الطويل لمبارك، تراجعت قوة ومقاومة الدولة واتخذت طابعاً شخصياً يعتمد على التزاوج بين المال والسياسة، ضمن ما يعرف برأسمالية المحاسيب، والتي تقوم على شبكات من المصالح والفساد والإفساد. لذلك، فإن دولة مبارك الباقية ستحارب بشراسة دفاعاً عن مصالحها، بل يمكن القول إنها الحاضنة الرئيسية للثورة المضادة. وبالتالي، فلا بد لحماية الثورة من تطهير أجهزة الدولة وبسرعة وحسم، ومن خلال إحداث تغييرات واسعة في القيادات وفي القوانين واللوائح المعمول بها في الدولة. ولا يعني هذا التطهير - كما يجادل البعض - هدم الدولة المصرية، فهناك فارق كبير بين تغيير النظام السياسي وإصلاح جهاز الدولة وبين هدم كيان الدولة والمساس بقوتها الرمزية. وهناك كثير من الثورات نجحت في تغيير النظام السياسي وإصلاح مؤسسات الدولة من دون أن تعرّض الدولة للانهيار. وهذا هو المطلوب في مصر، خصوصاً أن جهاز الدولة ونخبته من الاتساع والعمق والخبرة التاريخية الطويلة التي تضمن تماسكه واستمراره في ظل عملية تغيير وإصلاح تدريجي وشامل. إن إصلاح أجهزة الدولة المصرية ضروري حتى تنتصر الثورة وتحقق أهدافها، فالثورة لن تنتصر طالما لم تمسك بالسلطة والدولة، ولن تنجح عملية التحول الديموقراطي ولن تتحقق مستويات الشفافية والإفصاح المطلوب لجذب الاستثمارات الأجنبية وتشجيع الاستثمارات المحلية، طالما بقيت أجهزة الدولة على حالها من الفساد والضعف والشخصنة، وبالتالي لا بد من النهوض بمستوى أجهزة الدولة، ولا بد أن تصل قيم وأهداف الثورة إلى أجهزة الدولة وقياداتها، وعموماً لا بد أن تعترف النخبة المصرية في الحكم وفي أحزاب المعارضة وجماعة «الإخوان» والكنيسة، بأن الوقت حان كي تغادر المسرح السياسي تدريجياً، وأن تتخلى طوعاً عن قيادة الأحزاب وأجهزة الدولة لصالح أجيال جديدة، تملك خيالاً ورؤية تتّسق مع آمال الثورة وقيمها، عوضاً عن العيش ضمن النموذج الإرشادي لنظام مبارك، والذي أقصد به مجموعة القيم والأفكار والتوجهات السياسية والغايات والوسائل – المعلنة وغير المعلنة - التي تحدد ملامح أي نظام سياسي وتقود حركته. لكن الأزمة أن نخبة نظام مبارك في الحكم الجديد وفي المعارضة – غالبيتها فوق الستين - باقية ومهيمنة، وغير مستعدة لإعلان فشلها وضرورة رحيلها، بل على العكس، تعيد إنتاج أزمتها وانقسامها وعجزها، ومن ثم تُدخل الوطن في مرحلة جديدة من الانقسامات والاستقطابات ذات المواقف الثنائية الحدية، وتتجاهل القضايا والأزمات الحقيقية: الدولة مدنية أم مدنية بمرجعية إسلامية؟ والدستور أولاً أم الانتخابات البرلمانية؟ ومحاكمة المتورطين في قتل الشهداء أم الأمن والاستقرار؟ والثورة أم الاقتصاد؟ وبينما يحتدم جدل النخبة حول هذه القضايا، تبنت الجماهير قضايا مغايرة تماماً، وتحركت في كثير من الاعتصامات والإضرابات (آخرها صدامات مسرح «البالون» و»ميدان التحرير» الأسبوع الماضي) ضد الفقر والعشوائيات ورفع الحد الأدنى للأجور والتأجيل والإطالة غير المبررة في محاكمة مبارك ورموز نظامه. باختصار، تجاوزت الجماهير والحركات الشبابية من جديد أجندة القضايا التي تشغل النخبة، وانصرفت عن متابعة السباق الرئاسي الطريف والغريب الذي يبدأ من دون تحديد موعد الانتخابات الرئاسية أو القواعد المنظمة لها! وتبنت الجماهير أجندة من نوع جديد مثقلة بالهموم والمشاكل الحياتية، كما تبنى شباب «الإخوان» والأحزاب أفكاراً جديدة تدعو الى التغيير وتجديد دماء القيادة، ما أدى إلى انقسامات داخلية وانشقاقات ربما تغير الخريطة السياسية والتماسك التنظيمي الهش الذي ميز جماعة «الإخوان» وبعض أحزاب المعارضة. يمكن القول إن حجم تظاهرات يوم الجمعة المقبل وانتشارها والاعتصام حتى تحقيق بعض المطالب، يشكل تحدياً للدولة والنخبة بخاصة الإسلاموية التي لن تشارك في هذه التظاهرات، كما تشكل تحدياً للقوى الجماهيرية والتنظيمات الشبابية التي دعت الى التظاهر. أي أننا إزاء تحدٍّ مزدوج للنخبة من جهة، ولقوى الثورة من جهة ثانية، وبصرف النظر عن مدى النجاح أو الإخفاق في تنظيم هذه التظاهرات، فإن أزمة النخبة والدولة ستظل جاثمة على صدر الثورة إلى أن يتم الحسم، وأحسبه قريباً. * كاتب مصري.