ليس صعباً تفسير ما جرى للسفارة الإسرائيلية في القاهرة. فرغم الإجماع على أنه عمل مخالف للقانون المصري والدولي وكل الأعراف، ورفض كل القوى السياسية المصرية اقتحام السفارة، وكذلك بالطبع المواجهات مع رجال الأمن بعدها، لكن علينا أن نفهم أن في مصر قضية اجتماعية كبرى اسمها «الثأر» لا تتوقف محاولات البحث عن حلول لها وهي قضية متمكنة في صعيد مصر خصوصاً. ورغم أن القانون يعاقب مرتكب جريمة الثأر ولا يلتمس له عذراً حتى لو كان والده أو شقيقه قتل بواسطة من قام بالثأر منه، إلا أن حوادث الثأر لم تتوقف، بل غالباً ما يروج لفعلته ولا يطمئن إلا بعد أن يتأكد أن الجميع عرفوا أنه نال ثأره. وعلى ذلك من غير المجدي توجيه خطاب سياسي أو إعلامي إلى هؤلاء الذين اقتحموا السفارة ينبههم بأن ما أقدموا عليه يضر بمصر، فهم لا يتعاطون المنطق حين يشعرون بأن لهم «ثأر». صحيح سيعاقبهم لكن الأهم أن يلام من لم يتخذ من الإجراءات ما يخفف من رغبتهم في الانتقام منذ مقتل الضباط والجنود المصريين على الحدود. عموماً لم يعد جديداً الحديث عن أخطاء إدارة المرحلة الانتقالية في مصر، فبرامج التلفزيون وباقي وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي لم تتوقف عن حديث كهذا.. سواء «لوجه الله» والوطن أو لأسباب «مصالحية». وطبيعي جداً أن تسعى قوى وجهات وشخصيات إلى القفز على الثورة المصرية «وركوب» موجتها ثم تسييرها في مسارات أخرى بعيداً من الأهداف التي وضعها الثوار، وضحوا من أجلها، وسعوا إلى تحقيقها، وارتبطت بشعارات الثورة وهتافات أصحابها. ومنطقي أيضاً أن تتنصل كل القوى التي رعت وشاركت في «جمعة تصحيح المسار» من أحداث العنف التي رافقتها بداية من الاعتداء على مقر وزارة الداخلية ومحاولة اقتحامها ومروراً بالهتافات المسيئة التي تضمنت سباباً من بعض المتظاهرين، ونهاية بالأحداث الدامية عند السفارة الإسرائيلية بما أفرزته من تداعيات، فكل تلك القوى تؤكد دائماً على سلمية الثورة، وتشدد على أن الثوار لا يملكون سوى إصرارهم على المضي بالثورة حتى تحقق كل أهدافها بالطرق السلمية. فهناك إدراك بأن مبارك رحل من دون أن يطلق الثوار طلقة رصاص أو يلقي أحدهم زجاجة مولوتوف، وأن الحشد في ميدان التحرير وباقي الميادين المصرية كان كفيلاً بأن يهز الحجر ويخلع حاكماً بقي على مقعد لأكثر من ثلاثين سنة بعدما اعتقد هو وأركانه أنها دامت لهم ولأبنائهم وأحفادهم من بعدهم. وعلى ذلك فإن «ضرب» الثورات أو تخريبها يأخذ أشكالاً مختلفة قد يكون بينها نفاق الثورة والثوار أو المزايدة عليها وعليهم أو استخدامها لتحريك الجموع والحشود في اتجاهات ضد الثورة وأهدافها. وإذا كانت الجماعات والائتلافات والأحزاب والشخصيات ووسائل الإعلام لا تكف عن رصد أخطاء المجلس العسكري والأجهزة التنفيذية وبينها الشرطة وتلقي باللائمة عادة عليها سواء بالنسبة للتباطؤ في تحقيق أهداف الثورة أو التأخر في إعادة الاستقرار إلى البلاد مقابل تصريحات أو تلميحات تحمَّل دائماً دعاة «المليونات» المسؤولية عن تعطيل مسار الثورة أو التسبب في مزيد من الانفلات. يبدو واضحاً أن الطرفين التزما عدم الإقرار بأخطائهما والمضي كل في طريقه وكأنه لا يفعل إلا كل ما هو صحيح. المجلس العسكري منذ تنحي مبارك عن السلطة لم يتحدث يوماً عن خطأ وقع فيه، ولا الثوار بمختلف أطيافهم السياسية اعترفوا بأن هذه الدعوة كانت خاطئة أو أن ذلك التصرف لم يكن في محله، أما الإعلام الذي انقسم ما بين الدفاع عن تصرفات العسكر والحكومة، أو ركوب موجة الثورة، مع استثناءات قليلة، فإن القائمين عليه يعتقدون أنهم رابحون طالما بقي هناك «شغل» وأحداث تُستغل لمزيد من ساعات البث. وطالما أن الثوار يتوجسون من مؤامرات تحاك لوأد الثورة أو الإساءة إليها لا يكفي الإشارة إلى جهات تسعى لتحقيق ذلك الغرض فالواجب يقتضي أن ينأى الثوار بأنفسهم عن الدخول في آتون معارك فرعية غير مجدية، ومن الغريب أن يقبلوا بأن يحسبوا على مشجعي كرة القدم مثلاً فيحملون أنفسهم والثورة أوزار تصرفات غير أخلاقية يرفضها عموم الناس ويلصقون بأدبيات الثورة ألفاظاً وسباباً وهتافات مستفزة ومقززة حتى لو كانت موجهة ضد من قامت الثورة لخلعهم. قد يختلف الثوار حول طريقة بناء مصر في المستقبل ومواد الدستور المقبل وقانون الانتخاب وما إذا كانوا يريدون دولة إسلامية أو مدنية لكن المؤكد أن لا الثوار ولا باقي المصريين يسعون إلى جمهورية مدنية بمرجعية.. «كروية».