الاثنين 29/8/2011: الإعصار الأميركي نيويورك فارغة، غادرها معظم سكانها تفادياً للإعصار «ايرين». لن نرى هذه الأيام زحمة المشاة على الرصيف العريض من محطة المترو الى مداخل مكاتبهم. لن نرى التجمعات أمام مسارح برودواي، والفتيان والفتيات في الشوارع الخلفية حيث يعشش الانحراف أو الاختبار لانطلاقة في الموسيقى والغناء. نيويورك شعبها الهجين. البشرة البنية الداكنة والعيون الخضر والشعر المنسدل. هنا تتلاقح الأعراق وتتداخل الثقافات لتوحد العالم. نيويورك هزيمة التعصب والتحامل ونجاح التعايش. مستقبلنا يسعى الى منعه متعصبون، آخرهم مجاهدون، ولنقل منحرفين يحملون الإسلام شعاراً ويجذبون الكراهية. نيويورك شعراء «الرابطة القلمية» وكتابها في فجر القرن العشرين حيث كتب جبران شعره ونثره، وكتب نعيمة النقد والقصة، وخطت يد الريحاني «كتاب خالد»، ومارس ايليا أبو ماضي شعر الحنين وشيئاً من التحريض الطائفي. نيويورك حيث ضاع لوركا ومن بعده سنغور ثم أدونيس وكتب كل منهم قصيدة عتاب وهجاء وإعجاب في سياق واحد. الإعصار «ايرين» يطاول الساحل الشرقي الشمالي للولايات المتحدة. اتصلت بسهيل بشروئي في ميريلاند، أجابت السيدة ماري ثم حولتني إليه. لا يزالان في بيتهما في كولدج بارك بلا كهرباء. ضوء الشمعة هناك وظلال الأشجار العالية أشباح تتشكل. هل يتذكران الاسكندرية وبيروت في هذا الظلام الأميركي. ظلام ولكن، كل خبر عن الإعصار واضح و «ايرين» سائر الى زوال بعد رحيله ثم اضمحلاله في الشمال الكندي. ما أجمل أن يواجه الإنسان غضب الطبيعة. ذلك طبيعي، أما النشاز فهو أن يواجه الإنسان الإنسان الآخر في حرب لا مبرر لها مهما كثر المبررون. الثلثاء 30/8/2011: سؤال الربيع المجتمع المجفف أخطر من الديكتاتور وأكثر قسوة. نحن في الربيع العربي. يسقط الاستقرار وننفتح على حيرة، أي على صراع. تنفض المجتمعات ما علق بها من عادات مكتسبة للعيش وفق القانون، أيّ قانون. تعود الى أصالتها المنسية. تجرب العودة. تخسر القانون وتربح المجهول. مجتمعات كثيرة، يزداد عددها كلما أمعنت حفراً في البحث عن أصالاتها الأثرية. الربيع العربي بلا أدب ولا فن، أو هو يستدعيهما من ماضٍ محطم. الربيع العربي سؤال. الأربعاء 31/8/2011: تعجّل دائماً أتعجل الكتابة بين حلم وواجب. في المساء تخترقه الأصوات، يتخلخل الليل ويتعذر التأمل. في النهار عسرة المعاش، وثرثرة الناس تفرض أهميتها فرضاً. أتعجل الكتابة فاتحاً خزانة الذاكرة وبوابة الألم، كاشحاً ما يترك المارة من شعارات، ما يخترق الروح من سكاكين الحاضر والماضي. أتعجلها الكتابة ومضاً، حيث مساحة المضمر واسعة والمعلن موجزة، كمن يبتسم ويهرب الى موكب الأحزان، كمن يعيش ويهبط الى كهوف الموتى. الكتابة، الفرح الحياة، أمام حشود سائرة الى هاوية. الخميس 1/9/2011: بطاقة المؤرخ لن يقام جناز وطني لكمال الصليبي فلبنان اليوم قائم على الثرثرة وصدامات الأصداء، لا مكان فيه لشخصيات جدية، خصوصاً لمثل كمال الصليبي الذي ترك بصمات على قدس أقداس الشرق: التاريخ، المصبوغ غالباً بالتعاليم الدينية وبسير مقدسين يصعب تناولهم من زاوية علمية. عرفته بالتواتر عبر صديقيه في «المركز المدني للمبادرة الوطنية» طلال الحسيني وجودت فخر الدين، وفي اتصال صباحي لدى سماعي خبر رحيل الصليبي قال الحسيني «إن الحوار معه لا يتحول مجادلة ولا مجاملة بل يصير لعبة فكر، مثل أن تلعب بينغ بونغ مع من يجيد اللعبة»، ووصف حديثه ب «الشيق. لا يخجل من الاستيضاح عما لا يعرف. وفي كل مرة تجد لديه أخباراً خاصة في مستوى الأشخاص والتاريخ. خلال حرب الخليج الأولى كان الناس منقسمين ورأيت أن صدام حسين يجرّ الويلات الى بلاده. قال كمال الصليبي: أنت محق لكن، لا أحد يقف ضد قبيلته، وأردف: أنا من عشيرة الصليبي». مؤلف «تاريخ لبنان الحديث» و «بيت بمنازل كثيرة» و«منطلق تاريخ لبنان» الأكثر تحققاً من حضور الطائفية في الحياة السياسية والاجتماعية، كان في الثمانين من عمره حين قال: كنت مدافعاً عن صلاحية النظام الطائفي في لبنان وقد آن الأوان لإنهاء هذا النظام. وأصر على الذهاب شخصياً الى وزارة الداخلية لتقديم طلب شطب الطائفة عن سجله، وقد شطبت. كان كمال الصليبي مولعاً بالموسيقى وعازفاً بارعاً على البيانو، كما حفظ الكثير من الشعر العربي (الشعر مصدر أساسي للمؤرخ العربي)، خصوصاً شعر المتنبي، وهو قال للشاعر جودت فخر الدين الذي صاغ له كتابه «بيت بمنازل كثيرة» أن بيتاً من شعر المتنبي يتضمن أفضل تعريف لعلم التاريخ، والبيت هو: ألا لا أُري الأحداث مدحاً ولا ذمّا فما بطشُها جهلاً ولا كفُّها حلما لغيري أن يتناول مؤلفات كمال الصليبي، لكن الرجل تمسك بالبحث العلمي وعدّل آراءه وفق كشوف هذا البحث، ومن ذلك تغيير رأيه في الطائفية، كما أن الصليبي كان يحول كتابته التاريخية الى شبه رواية حين لا تثبت الحقائق علمياً، هكذا تحل اللمسة الأدبية محل التحليل والاستنتاج، وبدا ذلك واضحاً في كتابه «البحث عن يسوع». آخر مقابلة صحافية مع كمال الصليبي نشرتها مجلة «المجلة» في 12 تموز (يوليو) الماضي، ومن كلامه في المقابلة: «لبنان لم يتخلف عن التغيير الذي يجتاح بعض الدول العربية. أعتقد أنه متقدم كثيراً طالما لم يضربه أحد ليدمّره. يوجد في لبنان أقدم دستور في العالم بعد الولاياتالمتحدة، وهو ما زال مطبقاً منذ إعلانه في 23 أيار (مايو) 1926. ربما لا يحب اللبنانيون القانون بالدرجة المطلوبة، ولكن، لا يوجد لبناني لا يمكنه التمييز بين الإجراء القانوني والدستور وما هو غير قانوني أو دستوري، أو التعرف على أقل خطأ يحدث في أيّ إجراء. هناك فرق بين خرق القانون ومعرفة المرء لما يخرقه. في ما يتعلق بالتطور السياسي، من الصعب هزيمة اللبنانيين، كما أن إحدى علامات إدمانهم الديموقراطية هو فسادهم السياسي. في حين أكره شخصياً الفساد في أي صورة من صوره إلاّ أنني أدرك في الوقت ذاته أن الأحرار فقط يمكنهم أن يكونوا فاسدين حقاً».