الإثنين 22/8/2011: العبور المستحيل يفتقد العرب اليوم كاتباً يعبر دولهم ومجتمعاتهم، نتيجة عقود من كسر المركزية الثقافية (في القاهرة وبيروت) وتشظيها الى عواصم ومدن عربية عدة، بل الى مدن أوروبية تنشر كتابات بالعربية. ربما يكون الشاعر أدونيس آخر الكتّاب عابري الدول العربية ومجتمعاتها، حيث له متابعون بين مؤيد ومعارض، يتفاعلون سلباً وإيجاباً، لأن رأيه جديد يهز مياهاً راكدة، من شعارات ومبادئ تحيل الى الضجر ثم الانسحاب نحو النوم. لا كتّاب يعبرون الدول والمجتمعات العربية، انما تعبرها كتابات شبه جاهزة تتلبس الأيديولوجيا الدينية وبقايا شعارات المدّ القومي المصطبغ هذه المرة بالصبغة الدينية. تحضر الأيديولوجيا العابرة هذه في القنوات الفضائية، خصوصاً تلك التي تستضيف دعاة دينيين وقوميين يخرجون من الشاشة ويمسكون بتلابيب المشاهد (أو المشاهدة) راسمين خريطة طريق تتحكم بسلوكه وفكره، من العبادة الى السياسة الى الغرام الى الخلاف مع المختلفين. ينكفئ كتّابنا غالباً الى بيئاتهم الضيقة، ليس فقط دولهم ومساحتها واسعة، ينكمشون وصولاً الى حلقة أصدقاء محدودة. لذلك كنت ولا أزال أطلب من الأصدقاء حين يسافرون الى بلد عربي، أن يحملوا لي في العودة هدية، أفضِّلها كتاباً محلياً أتعرف من خلاله على نبض مبدع أو أجواء مفكر، بعدما انعدمت فرص عبور الحدود والمجتمعات، ربما أجد كنزاً كان بعيد المنال. الثلثاء 23/8/2011: القذافي المتداخل بعد 42 عاماً من حكم معمر القذافي المطلق لليبيا واعتبار مجتمعها أو مجتمعاتها حقل تجارب لخواطره أو هواجسه الفكرية الغريبة، لا يترقب أي عاقل أن ينتقل هذا البلد العربي المتوسطي سريعاً الى ديموقراطية مستقرة، لا بد أن القذافي موجود في خلايا كثيرين، خصوصاً بين معارضيه الأشد شراسة. نحتاج الى انتظار طويل على الأرجح لنرى معجزة في ليبيا، وعصرنا لا يتقبل المعجزات، بل لا يتحملها. ثمة تجفيف للمجتمع يؤديه الديكتاتور ببراعة ليصل الأمر الى: أنا أو الطوفان. ندعو الله أن لا تكون ليبيا مقبلة على طوفان يتجلى بأفخاخ القذافي ومؤيديه، كما بإمكانية الخلاف بين معارضيه الذين يبدو قليلهم واضحاً وكثيرهم غامضاً. حدثني صديقي البريطاني أنه يفتقد أصدقاءه المثقفين ذوي الأصل الليبي الذين غادروا أماكن إقاماتهم البريطانية ليحملوا السلاح دفاعاً عن شعبهم في ليبيا وطلباً لمستقبل أفضل لهذا الشعب المنتفض على سجن الديكتاتور. قال صديقي إن هؤلاء أبرياء وحالمون ويخشى عليهم من رفاق سلاح سبق أن حاربوا في جبهات عربية واسلامية وحملوا شعارات تكفير وإلغاء. لا نطلب المعجزات من شعب مجفَّف في سجن الديكتاتور، يكفيه كسر حاجز الخوف والعبودية لينتفض على الحاكم المطلق، ولكن، الى أين؟ الأربعاء 24/8/2011: انتحار رائد الفضاء نحن، البعيدين عن سجن القذافي وفوضاه، سنفتقد صورته التي تبدو آتية من عالم آخر، ثيابَه المزيجَ من خيالات مصممي الأزياء وألبسةِ أهل البيئات الصحراوية المتنوعة، وأيضاً خيمة الرجل، لعبة طفل غاضب في عواصم العالم الأول، تبقى الخيمة لعبة لا غير، وربما تغطية للانصياع. وقد نفتقد هذه البداهات المتناثرة في كتابه الأخضر. لن يجرؤ أحد على الوشاية باسم كاتبه الحقيقي الذي باع القذافي بضاعة قرمطية سبق أن أسالت دماً بريئاً وأساءت الى حرمات في مكة وغيرها. وتحضرني كتابات القذافي الأدبية: في مطلع عام 1995 أصدر قائد ثورة الفاتح عن «مطابع الوحدة العربية» في مدينة الزاوية الليبية مجموعته القصصية «القرية القرية، الأرض الأرض وانتحار رائد الفضاء». يدعو القذافي في قصصه لعودة الإنسان الى الطبيعة، والى اعتبار الزراعة أساس الإنتاج المتصل بعيش البشر، ويخاطب قارئه بأن «الناس يبنون المدينة للضرورة والحاجة، لكن المدينة تصير بعد ذلك كابوساً لا بد منه بالنسبة الى أولئك الذين بنوها وسكنوها». ويرى في المدينة أذى تربوياً لأطفالها. وبعد أن يهجوها يدعو الى الفرار منها، «ابتعدوا عن الدخان» الى القرية، التي يصورها فردوساً أرضياً. في القرية وحدها يمكن، بحسب القذافي، رؤية المَشاهد التي تتناولها آيات القرآن الكريم، كمثل «والضحى. والليل إذا سجى» و «والشمس وضحاها. والقمر إذا تلاها. والنهار إذا جلاّها. والليل إذا يغشاها». وينتهي القذافي من مخاطباته هذه، التي يعتبرها قصصاً قصيرة، الى رسم مأساة رائد الفضاء الذي رجع الى الأرض خائباً وعجز عن أداء أي عمل يعيش منه فانتحر. والقذافي يقول انه يحب الجموع (أحب الجموع كما أحب أبي)، لكنه يستدرك في قصة «الفرار الى جهنم» فيقول (وأخشاها كما أخشاه)، مصوراً مزاجية العقل الجمعي الذي لا يُؤتمن، ويد الملايين العمياء التي يمكن ان تقتل حتى محبيها (هل تحققت «جهنم» القذافي هذه الأيام؟). ويحتل الموت مساحة في قصص القذافي، فيدعو الى مصارعته، لأن منية الإنسان آتية لا ريب فيها، فتبقى له رجولة الصراع. والطريف أن القذافي يبدأ قصته «الموت» بالتساؤل: «هل الموت ذكر أم أنثى: العلم لله؟»، وهنا يشير الى طرفة بن العبد «الشاعر الجاهلي القديم» الذي ذكر الموت في صيغة المذكر، والى نزار قباني الذي ذكره في صيغة المؤنث، ويلقب القذافي نزاراً ب «الشاعر الجاهلي الحديث». الخميس 25/8/2011: تحية للأدباء فرحت لخبر تحرير الشقيقين، الرسام محمد الأمين والشاعر الحبيب الأمين، من السجن بعدما اعتقلتهما كتائب القذافي أثناء التظاهرة الأولى في طرابلس ضد النظام. ولأدباء ليبيا ومبدعيها حكايات مع القذافي يصح أن يرويها واحد منهم جرب العلاقة الملتبسة مع ديكتاتور يعتبر نفسه زميلاً. ولأن الأدب فعْلُ حرية بالدرجة الأولى، كان لا بد من الاصطدام بالقذافي و «التحايل» لمواصلة الإبداع في أجواء غير مشجعة. أسمح لنفسي هنا بإيراد هذا التصنيف الذي أتحمل مسؤوليته وحدي: 1 - كتّاب بدوا موالين للقذافي بخوف وحذر: ابراهيم الكوني، أحمد إبراهيم الفقيه، محمد حسن المقهور، فؤاد الكعبازي، علي صدقي عبدالقادر، خليفة حسين مصطفى، زياد علي، حسن السوسي. 2 - كتّاب والوا النظام بحكم الأمر الواقع، وظيفة وإقامة: الراحل الصادق النيهوم، علي فهمي الخشيم (توفي أثناء الثورة على النظام)، أمين مازن، رجب بودبوس، علي الفزاني، فوزية شلابي، سليمان كشلاف، فوزي البشتي، فرج العربي، نجم الديب الكيب. 3 - سجناء ومعتقلون ومنفيون: محمد السلطامي (شاعر بارز أعدمته «اللجان الثورية» بتهمة الشيوعية لأنه كان يرتدي قميصاً أحمر، ولم تنفع شفاعة مظفر النواب صديق القذافي في إنقاذه). الشاعرة فاطمة محمود والشاعر فرج العشة (هربا من القذافي نحو المنفى الألماني طلباً للحرية، وهما متزوجان). 4 - كتّاب مهمشون، معارضون صامتون: عبدالله القويري، مفتاح عبدالسلام، مفتاح العماري، جمعة الفاخري، يوسف القويري، رضوان بوشويشة. الجمعة 26/8/2011: المفاجآت؟ يستذكر الليبيون قولاً ينسبونه الى الإغريق، مفاده ان «من ليبيا تأتي المفاجآت». هل أنها تأتي فنشهد ولادة دولة تضم أطول شاطئ على البحر المتوسط، قال صاحبي الذي زار طرابلس الغرب يوماً: تخيلت أن الليبيين يديرون ظهورهم الى البحر ويولّون وجوههم شطر الداخل الصحراوي. قالها وهو يحمّل القول تأويلاته كافة. تكون «المفاجأة» حين توازن ليبيا بين البحر والصحراء، تولد ليبيا جديدة من جفاف الديكتاتورية وآلام مواطنيها مساجين الديكتاتور.