للجماعة مع الميكرفون «مكبّر الصوت» رواية تصل حد التناقض الواضح، والتعارض الفاضح، اللذين يكشفان عقلية المجتمع في استقبال الأشياء والآراء والأسماء! إنه تعارض ينتقل من آناء الليل حتى أطراف النهار، وإليك المثال! يقول الدكتور صالح بن حميد في السيرة التي يكتبها عن والده الشيخ عبد الله بن حميد، ونشرها في ملحق الرسالة، يقول عن والده: (أقدم الشيخ- أي عبدالله بن حميد رحمه الله- على توريد «الميكرفون» للمسجد- في بريدة - على رغم مما لقيه من مقاومة شديدة وبخاصة من بعض طلبة العلم والصلحاء، الذين لهم مكانتهم وقبولهم في الناس لما عرفوا به من صلاح وتعبّد، ولكن نظراً لثقة الناس بالشيخ وعلمه وورعه، وبعد نظره ونزاهته، فلم يكن لهؤلاء تأثير كبير على قبول الناس لهذه الآلة الجديدة، ولمزيد من ترسيخ قناعات الناس بهذا الشيء الجديد فكان الشيخ يخطب فيه يوم الجمعة ويعقد درساً عاماً يوم الإثنين بعد المغرب عن طريق مكبر الصوت، أما بقية الدروس اليومية العلمية فكالمعتاد من غير هذا الجهاز) راجع ملحق الرسالة الجمعة 21/11/1426ه. في البدء تجب الإشارة إلى جماليات هذه السيرة التي يرويها الولد عن والده، وهي سيرة مسيرة تتسم بالدقة والشجاعة! ثم على القارئ أن يتأمل مقدار المعارضة و«المقاومة الشديدة» التي واجه بها المجتمعُ مكبراتَ الصوت، إنه موقف الرفض المدجج بطلبة العلم، الذين يرفضون الاستفادة من الجديد، ويعارضون كل شيء لم يألفوه! ثم ليقسْ القارئ الكريم هذه المعارضة وتلك المقاومة بما يحصل هذه الأيام، حين أصبحت مكبرات الصوت تستخدم استخداماً غير حضاري، بحيث تستخدم بما يخالف تعاميم وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية! ومن له وثيق صلة بإدارة المساجد يعرف أن هناك تعميماً من الوزارة يمنع منعاً باتاً استخدام الميكرفون لغير الأذان والإقامة فقط! ولكن الملحوظ أن هذا المكبر- بكل قوته- التي تصل إلى 80 ديس بل، وهي تعادل صوت طائرة الكونكورد، يستخدم لأداء الصلاة والخطب قبل الصلاة وبعدها، إضافة الى المواعظ التي ُتلقى على المسامع بعد المغرب أو بعد العشاء أحياناً- والغريب أن بعض المواعظ تأخذ قرابة الساعة، ثم يأتي معقبٌ ويعقب - بعد الساعة هذه – ويأخذ تعقيبه ساعة أخرى، على رغم أن المعقب وعد السامعين بألا تكون كلمته أكثر من خمس دقائق، يفعل ذلك من دون مراعاة لحقوق الجيران أو مرضى الحي أو أطفاله الرُضّع! بل تعدّى الأمر إلى اتهام أي كاتب يطالب بترويض هذا الصوت (أو خفض الميكرفون) بأنه رقيق الدين، وضعيف العقيدة فاسد اليدين! أصبحت ميكرفونات المساجدمن خلال ارتفاع صوتها وسوء توزيعه وضبطه وتهذيبه مصدر إزعاج وتعب ومعاناة. وقد حدثني أحد تجار العقار بأن كثيراً من المشترين يتحاشى شراء أي عقارمجاور أو ملاصق لمسجد! عجباً لأمر مجتمع كان- قبل ثلاثين سنة -يُحرّم الصلاة خلف من يستخدم مكبرات الصوت والآن يشكك في دين وعقيدة من يطالب بتهدئة وترويض هذه المكبرات!